فساد النخب ونخبة الفساد
إقالة مسؤول كبير في اتحاد الكرة المصري على خلفية فضيحة جنسية.. توقيف ممثلة مصرية شهيرة لحيازتها مخدّر الماريغوانا.. أحكام بالسجن لم تنفذ على محامٍ شهير ورئيس نادٍ رياضي كبير.. الحُكم بإعدام قاضٍ قتل زوجته المذيعة لأنها هدّدته بما لديها من معلومات عن فساده.. هذه عيّنة بسيطة من جملة قضايا فساد في مصر، من بين عشرات القضايا التي وصلت إلى السلطات العدلية في العام الأخير وحده. أما ما لم يصل إلى ساحة القضاء فربما أضعاف ذلك. ويتحوّل حجم الظاهرة رقماً مخيفاً إذا رجعنا إلى الوراء سنوات قليلة، لنواجه سلسلة طويلة من انتهاكات وقائع فساد ثابتة بأحكام القضاء. وصل بعضها إلى أعلى المستويات الحكومية، لعل أحدثها إقالة وزيرة الصحة والحكم بسجن مسؤولين في مكتبها وأفراد من عائلتها في وقائع فساد. وقبلها ببضعة أعوام قضية مشابهة سُجن بسببها وزير الزراعة.
كان الفساد المالي والإداري في عهد جمال عبد الناصر محدود النطاق، لأن تطبيق الاشتراكية تحوّل إلى إفقار للأغنياء، فلم يكن لدى المصريين ما يسمح أو يدعو إلى التنافس حوله والفساد بسببه، فكان التربّح مقصوراً على زمرة قليلة من رجال السلطة السياسية، ثم بدأ الفساد ينتشر وينتقل إلى مستويات تنفيذية أقلّ، حين دشن أنور السادات ما وصف بالانفتاح الاقتصادي. وفي عهد حسني مبارك استمرّ الانتشار الرأسي نزولاً إلى مختلف مستويات الإدارة التنفيذية والمحليات. ثم أخذ الفساد يتوسّع أفقياً وينتقل من قطاع إلى آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى، بحكم تداخل الاختصاصات وتعدّد الجهات المعنية.
ولكن كان دائماً هناك شريحتان رئيستان للمنخرطين في الفساد في مصر: العليا وتضم الفاسدين، سواء من المسؤولين أنفسهم أو المحيطين بهم والمنتفعين من ورائهم، وشبكات محدودة العدد عميقة النفوذ والسطوة في مختلف المؤسّسات والقطاعات المهمة والحيوية. ولهذه الشريحة أذرع تمتد في أعماق مفاصل الدولة. وتلك الأذرع هي التي يتم بترها حال انكشاف الفساد، سواء على أيدي شرفاء غير فاسدين أو تصفيةً لحسابات بين الكبار. أما الشريحة الدنيا فتضم السواد الأعظم من الفاسدين، وهم الأكثر عدداً، وإن ليسوا بالضرورة الأشد فساداً. وهي تبدأ من الإدارة الوسطى نزولاً حتى عمّال الخدمات والمراسلة في المؤسسات الحكومية. ويمكن لأي مصري تعامل مع جهات حكومية أن يعدّد كمّاً هائلا من مظاهر الفساد والتربّح والرشوة. في مختلف القطاعات والوزارات والهيئات الحكومية العامة والخدمية، مثل الكهرباء والمياه والتليفونات والمرور والسجل المدني والتوثيق والضرائب. هذا بخلاف المحليات التي تمثل وحدها منبعاً للفساد ومصنعاً للفاسدين.
محصلة ذلك كله أن الفساد في مصر لم يعد استثناء، ولا خروجاً على العرف السائد في حالات معينة، وإنما صار أسلوب حياة، فكانت النتيجة الماثلة حالياً أن النخب المصرية أصبحت تتبلور من خلال قواعد وآليات هي نفسها موبوءة بالفساد. وأصبح تجنيد أعضاء تلك النخب وفرزها تجسيداً إضافياً للفساد المستشري، والذي طاول اختبارات لاعبي كرة القدم الناشئين في الأندية الجماهيرية، فضلاً بالطبع عن ظهور نجوم ونجمات جدد في التمثيل والغناء جرى "تلميعهم". أما عن الفساد في الإعلام، سواء التليفزيون أو الصحافة المكتوبة، فحدّث ولا حرج. وهكذا لم يعد الفساد يصيب أفراداً من النخب المصرية، بل صارت النخبة نفسها تتشكّل بموجب الفساد. وبالتالي، لم يعد ثمة فاسدون داخل النخبة، وإنما صارت تتشكّل منهم حصراً، بالطبع عدا استثناءات تؤكّد القاعدة. وعندما يتغلغل الفساد في المجتمع حتى النخاع، لا بد من أن تخرج منه نخب تشبهه، ولا مكان للنزيه في تلك الدائرة الفاسدة المغلقة. وهي معادلة منطقية، فالنخب جسر تواصل متبادل بين السلطة والمجتمع، وحين يكون كلاهما فاسديْن، لا يمكن للجسر إلا أن يفسد مثلهما ليليق بهما.