15 نوفمبر 2024
فرحًا بمعهد الدوحة للدراسات العليا
وحدها المصادفةُ جعلت احتفال معهد الدوحة للدراسات العليا بتخريج أول فوجٍ من طلابه في عشرة تخصصات ماجستير في العلوم الاجتماعية والإنسانية والإدارة العامة واقتصاديات التنمية، ينعقد، الاثنين الماضي، فيما منصّات الكراهية والتزييف في غير بلدٍ خليجيٍّ مجاور تنشط ضد دولة قطر، وفيما يُراد التنغيص على هذا البلد، وأهله والمقيمين فيه وزوّاره وضيوفه، وتسميم مزاجهم، لا لشيءٍ إلا ليستمتع متورّمون في أبوظبي والرياض بأوهامهم. ولذلك، كان من بين مصادر البهجة الوفيرة، بتخريج أزيد من مائة طالب، من دولة قطر، ومن 12 بلدا عربيا مُنحوا التأهيل العلمي من دون أي كلفةٍ مالية، هذا "الفرح بتدفق الحياة العادية، وإقامة طقس للاحتفال بالأمل الذي يمثّله الخريجون"، وهذا الفرح "هو طريقتنا في تحدّي هذا الظرف بالذات الذي يمر به هذا البلد"، على ما قال رئيس مجلس أمناء المعهد، عزمي بشارة، أمام الحفل.
وإذا أراد من أراد أن يجد في هذه الإشارة رسالةً إلى من قد يلزم أن تصل إليه، فلا بأس. ولكن الغاية الأوضح في هذا القول تأكيد البديهيّ الذي يجدر أن يظل معلوما، وهو أن أهل المعرفة والعلم، وأصحاب مشاريع النهوض وبناء مؤسسات التعليم والدرس، لا يشغلهم كذب الكذّابين، وتدليس أهل التدليس المكشوف، وسفاهة صنّاع الشتائم والبذاءات، وإنما المضيّ فرحين بما يُنجزون ويبنون، ولا سيما في بلدٍ، تؤمن قيادته وحكومته بالإنجاز، وتترفّع عن معارك الصغار التافهة، وتقدّم بسخاءٍ لكل ما من شأنه نفع الأمة. وهذا معهد الدوحة للدراسات العليا واحدٌ من شواهد وفيرةٍ على هذه الحقيقة، إذ يضم حرمُه الجامعي أيضا المعجم التاريخي للغة العربية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وجميعها "مشروعاتٌ عربية في موقعها ولغتها وأجنداتها، كونيةٌ في عقلها ونهجها العلمي"، على ما سمعنا من الدكتور عزمي بشارة، في الحفل الأنيق. وهذا يعرفه أهل العلوم الإنسانية والاجتماعية العرب، ممن أيقنوا أن مشاريع الابتذال الساقطة المعلومة، والتي يُنفَق عليها بلا حسابٍ، لا ينجُم عنها غير المخازي، من قبيل "غرابيب سود" وبطولات يوسف العتيبة في واشنطن.
لم يكن وزير التعليم والتعليم العالي القطري، محمد الحمّادي، يمتدح بلده بما ليس فيها، عندما قال إن معهد الدوحة للدراسات العليا متفرّدٌ بين مؤسسات التعليم العالي في عالمنا العربي، إذ نعلم، نحن من شاركنا خريجي المعهد بهجتهم في حفل مساء الاثنين الماضي، أنه ما من مؤسسةٍ تعليميةٍ عربيةٍ انفردت بتقديم المزايا الكبيرة لكل طلابها، ليس فقط في مستوى التكوين والتدريب والتأهيل والتعليم، وإنما أيضا على صعيد التغطية المادية لسنتي التحصيل العلمي. ولم يتزيّد رئيس المعهد بالوكالة، الدكتور ياسر سليمان، في قوله، أمام الحفل، إن معهد الدوحة عربيٌّ بامتياز، بمشروعه ونظرته النهضوية والتنويرية، وسعيه إلى خدمة المجتمع القطري والخليجي والعربي. وهنا، في وسع دولة قطر أن تعتدّ بما تصنع، وأن تُشهر منجزها الكبير هذا بغبطةٍ، بل وأن تعرّف من لا يعرف (وليس من لا يريد أن يعرف) بالفرادة الخاصة التي أقامتها في الدوحة، ليس فقط في تسخير كل إمكانات النجاح للنخبة الأكاديمية والإدارية التي نهضت بمشروعات المعهد والمركز العربي والمعجم التاريخي للغة العربية، وإنما بتوفير كل أسباب الحرية والاستقلالية المعرفية والأكاديمية، للعاملين في هذه المؤسسات، والمشاركين في أنشطتها، وللطلاب المنتسبين إليها، باعتبار أن هذا المشروع النهضوي، العالي الطموح، لا يمكن أن يُؤتي ثماره، وأن يؤدّي دوره ووظيفته في فضائه الحضاري العربي العام، من دون شرط هذه الحرية والاستقلالية.
كان معهد الدوحة للدراسات العليا، في فكرته قبل سنوات قليلة، مغامرةً ثمينة واستثنائية. وصار الآن جائزا، أو مطلوبا على الأصح، أن يُغبط من قاموا عليه، ومن تعبوا في سبيل نجاحه، على ما تحقّق. والثقة مؤكّدةٌ في أن مسار هذا المعلم العربي سيواصل تقدّمه، وهو الذي يجمع الدراسة النظرية والممارسة وخدمة المجتمع والبحث العلمي.. وما أحوج الأمة إلى هذا كله، في زمن الانحطاط الراهن، والذي ينخرط بعضهم، هذه الأيام، في واحدةٍ من نوباته البائسة.