فرانكشتاين إيران
يكاد يكون العالم العربي (المشرق تحديدًا) المكان الوحيد في هذا الكوكب الذي تستطيع إيران أن تفاخر بتحقيق "انتصارات كبرى" فيه، بما في ذلك ادّعاء السيطرة على أربع من عواصمه التاريخية (بغداد، دمشق، صنعاء، وبيروت)، تلك التي "انتشر فيها عبق الثورة الإسلامية الإيرانية، فصارت مضرب المثل في التقدّم والحضارة"، بحسب تصريح أخيرا لنائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، العميد علي فدوي. لكن دعونا من كلامه هذا الآن، ولندقّق في وضع إيران الاستراتيجي العام مع وصول إدارة جديدة إلى الحكم في طهران، تذهب أكثر التحليلات (التبسيطية) إلى أنها ستكون المستفيد الأكبر من عقدي الفوضى (2001 - 2021) والإنهاك الأميركي في المنطقة.
بعيدا عن المشرق العربي الذي حوّلته بمليشياتها إلى هشيم، تواجه إيران في كل مكان آخر تقريبا نكساتٍ وتراجعات، بما في ذلك إمكانية أن تخسر حدودها مع جارتها الشمالية، أرمينيا، التي قد يفوتها، بحسب نظرية العميد فدوي، فرصة الانضمام إلى "محور المقاومة" والتمتّع بإنجازاته، والتحلّي بصفاته، ابتداء "بالصبر الاستراتيجي" وصولا إلى "الخلاص الأبدي"، ذاك الذي لا يدركه المرء إلا إذا خَبِر ظروفه، وأهمها افتقاد الماء والكهرباء والخبز والدواء، وربما التقاط فيروس كورونا، على الطريق، والقضاء بسببه، على ما تزعم الرواية الإيرانية.
هناك، على الحدود بين إيران وأذربيجان، ينذر التوتر باندلاع نزاع كبير في منطقة جنوب القوقاز في ضوء تقدير طهران أن أذربيجان تتّجه، بدعم تركي، إلى السيطرة على المعبر البرّي المارّ بالأراضي الأرمينية المحاذية لإيران للوصول إلى إقليم ناختشيفان الأذري الذي يتمتع باستقلال ذاتي، ما يعني أن إيران ستخسر حدودها مع حليفها الأرميني، ومن خلاله إمكانية الوصول إلى أوروبا عبر جورجيا، بعيدا عن منافستها الإقليمية اللدود، تركيا. وكانت أذربيجان استعادت في الحرب الأخيرة (2020) ضد أرمينيا إقليم ناغورنو كاراباخ، وفرضت بموجب اتفاق، رعته روسيا وتركيا، فتح معبر برّي ضمن الأراضي الأرمينية على الحدود مع إيران يصلها بإقليم ناختشيفان. وقد ازدادت مخاوف إيران في ضوء مناورات "الأخوة الثلاثة 2021" التي جمعت أذربيجان وباكستان وتركيا الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول). وتفاقم شعورها بالحصار، خصوصا بعد سقوط حكومة أشرف غني الحليفة لإيران، وعودة حركة طالبان إلى السلطة في كابول، مع بروز بوادر توتر أيضا في العلاقة مع تركمانستان.
وقد تغدو الأزمة مع أذربيجان، إذا تطوّرت، أخطر أزمة تواجه إيران منذ الحرب مع العراق (1980 - 1988)، وقد تكتشف معها "حكومة الحرس" في طهران أنها، فيما كانت مشغولةً بتفتيت المشرق العربي وإنهاء حساب معلق مع العرب منذ القرن السابع الميلادي، غفلت عن التحوّلات الكبرى التي كانت تجري على حدودها جنوب القوقاز، وباتت تأثيراتها تهدّد الداخل الإيراني، فأي صدام مع أذربيجان قد يهدّد وحدة إيران بسبب وجود أقلية أذرية كبيرة، تتفاوت التقديرات حول حجمها بين 25% و35%. وهذا يوازي أكثر من ضعف عدد الأذر الذين يعيشون في أذربيجان نفسها، علما أن إيران تمنع تدريس اللغة الأذرية أو ظهور رموز أذرية في وسائل الإعلام. والأذر، الذين يقطنون ثلاث محافظات رئيسة شمالي إيران، أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية وأردبيل، وإنْ كانوا يتفقون مع الفرس في المذهب، إلا أنهم أتراك لجهة القومية، ولطالما تطلعوا إلى أذربيجان باعتبارها بلدا شقيقا، فصلتهم روسيا عنه بعد اتفاق تركمنشاي عام 1828، وقد اتّضحت حقيقة المشاعر القومية لأذر إيران خلال الحرب أخيرا في كاراباخ، عندما خرج هؤلاء في تظاهراتٍ دعما لأبناء جلدتهم، ما حدّ من قدرة طهران على دعم أرمينيا.
وباستثناء فترة قصيرة من العلاقات الودّية بين إيران وأذربيجان، بعد استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفييتي، اتسمت العلاقات بين البلدين بالتوتر، بسبب محاولات إيران نشر أيديولوجيتها الدينية في المجتمع الأذري، وسعيها إلى ربط شيعة أذربيجان بسلطة الولي الفقيه، كما تفعل في أوساط الشيعة العرب. وكانت إيران قد أنشأت مليشيا "حسينيون" استقطبت فيها مواطنين شيعة من أذربيجان، على غرار "زينبيون" الباكستانية، و"فاطميون" الأفغانية، ودفعت بهم للقتال إلى جانب النظام السوري. وقد أثار هذا غضب حكومة أذربيجان، فاعتقلت عددا من هؤلاء المقاتلين العائدين من سورية، وحكمت عليهم بأحكام سجن طويلة.
لقد أيقظت إيران بمشروعها القومي - الطائفي كل الشرور الكامنة في المنطقة، فلنر إذا كانت قادرةً على لجم "فرانكشتاين" الذي صنعته.