فخّ الأمومة
شعرتُ، بعد إنجابي ابنتي، قبل أن أحقق أيّاً من أحلامي، أنّني انتهيت. فها أنا أُصبح أمّاً، ولم أعد أعرف من أنا، عدا ذلك. كانت تلك أولى بوادر الاكتئاب، الذي تجد فيه نساء كثيرات أنفسهن، بعد التفرّغ للأسرة، أو بعد الإنجاب عموماً. لكن إدراك ذلك الشعور كان باعثاً على السّعي إلى العمل بإلحاح، من أجل إخراج نفسي من نفقِ اليأس. يتمثّلُ العمل أساساً، بإقناع الذّات بوجود إمكانات كثيرة للعيش خارج فخِّ الأمومة، وإمكانية فصلِ الأمّ عن المرأة، في لحظاتٍ صعبة، تجد فيها المرأة نفسها غير قادرةٍ على القيام بعملها، لتغلّب ارتباط الأم بالأبناء عليها. وتلك من أصعب المهام التي تواجهها الأمهات؛ فالحدّ من الانهمار العاطفي تجاه الأبناء، والإبقاء على الحياة الأخرى، عمليّة يومية تقاوم فيها المرأة الشُّعور بالذنب الذي يُنمّيه المجتمع، حين تجد لها مساراً خارج عالم الأمومة. رغم أنّ الأمّهات التّقليديات، غير العاملات، لسن أمّهاتٍ مثاليات، كما تحاول العقلية التّقليدية ترويج ذلك.
لعلّ جلّ من يذكر أمه، في أيام الزّمن الجميل الذي يحنّون إليه، يذكُر طعامها وحضورها في البيت، والدّفء الذي يتأتّى من وجودها الدائم، لا من توجيه يومي أو حضن لا محدود. بالإضافة إلى تضحيتها غير المحدودة، في ظروف الفقر والحاجة، فتحضر المرأة في صورة شهيدة الأمومة، بسبب خذلان المجتمع لها ولأولادها، بدلاً من أن تحضُر في أذهان الأبناء نموذجاً للإنسان الناجح والمتوازن.
لذلك كله، اعتدنا امتصاص الأمومة حياةَ المرأة، بتحفيزٍ من المحيط الذي لا يرتاح حتى يُدخلها فخّ الأمومة، لربطها من قلبها إلى الأبد، بتعزيز إحساس المرأة بالذنب، لعدم قدرتها على منح أطفالها ما يحتاجونه، حسب معايير المجتمع نفسه. وهو لا يعدو أن يكون ذاتها كلّية، ماديّاً لا روحيّاً. أي بالوجود المادي في البيت، حتى ولو قضت اليوم في مشاهدة المسلسلات. المهم الحضور، لا طريقة الحضور ومضمونه.
لذا يتم تحضير المرأة لهذا الدور منذ ولادتها. لا يعني بذلك التّحضير تكوينها أمومة حقيقية، تربّي بالفعل، ولا تلدُ وتطعم فقط، فيتمّ إقناع المرأة بأن الأمومة سبب وجودها على الأرض، وأن عليها أن تُنجب وتُكثر من البشر. لذا، هي لا تُعَلَّم الحب المتوازن أساساً لعلاقتها بالأبناء، مثل ما هو أساس علاقتها الأسرية الأخرى، حالما تبلغ الفتاة، في عبور أوّلي من عتبة الطفولة إلى عالم المرأة الشاسع. وهو عبور فيزيولوجي/ نفسي، أكثر منه عقلياً أو روحياً. بل تعلم أن التضحية هي مبدأ حياتها.
كثير من النّساء المعاصرات يعبّرن عن شعورهن بالعجز، والخوف من فقدان الذات في عالم الأمومة، فيصير الأطفال أبطال حكايات الأمهات اللواتي ينسين وجودهن، وأحلامهن، وتصبح الأمومة خلالها عبئاً ثقيلاً. وغالباً يؤدّي ذلك إلى الاكتئاب. وللتاريخ طريقته في إخبارنا بتجارب، محدودة لا شك، لنساء هجرنَ أبناءهن لعجزهن عن عيش تجربة الأمومة بالطريقة التي أقنعهن المجتمع بها. الأم التي لا تشكو ولا تتعب، وتمنح عينيها وقلبها وجسدها وروحها لأبنائها، فما بالك بوقتها وجهدها وحياتها كلها؟
لا أحد يخبرهنّ أن الأم إنسانٌ ضعيفٌ بقدر ضعف أيّ انسان، وأنّ فاقد الشيء لا يعطيه. لا يمكن أن تتوقّع من الأم أن تكون بئراً للحنان والحب، وهي لم تنل منهما ولو قطرة. وحده الرابط البيولوجي ما يحضُر، وهو لا يكفي ليصنع أمّاً، كما لا تكفي قطرةٌ من صلب الرجل ليكون أباً. فقليلون يتذكّرون أحاديث فارقة، في سبيل السعي نحو حياة واضحة المعالم ذات مبادئ وأهداف، وتوجيهاتٍ وأحضان. أو ما يجعل الأم أمّاً حقيقية، وليست مجرّد قائمة بأعمال البيت والولادة، فوجودها يتجاوز رائحة طبخها وقيامها على أولادها حين المرض.
ويبقى المجتمع كاملاً مسؤولاً عن الأبناء، في تربيتهم وحمايتهم وتوفير حياة كريمة ودافئة لهم. ولا يمكنه، وهو الذي يدوس المرأة منذ ولادتها، أن ينتظر منها أن تكون أمّاً حقيقية، إذا لم يحترم إنسانيتها وحاجتها للوجود الفردي، خارج أدوارها الاجتماعية داخله. ولا يمكن امرأةً تعاني الأمرَّين، لتقف على قدميها، أن ترضى عن أمومةٍ تفقدها إنسانيتها.