فحص الفلاتر بالأشعة تحت البمبي
نصح إعلاميٌّ غيور الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بعدم الارتجال في الخطبة، لكن البطل الذي قهر "الإخوان"، وسَكِر بحب الشعب والنصر في معركة فضِّ الاعتصام في ميدان رابعة، وحَسِب أنه أخطب الخطباء، لم يأخذ بنصيحة بطانته الصالحة، وهي غير بطانة الممثلة التي زعمت أن فستانها كانت له بطانة، وأنها سقطت على الدّرج، فصاح المذيع بعد سقوط القلعة: هو كان له بطانة (يا أختاه)؟ فقالت باكية من غير دمع: أيوا يا عمرو. ... لقد ظلمناكِ أيتها الدرّة المصون واللؤلؤة المكنون.
البطانة فلتر، والوقت ثمين، والبلاغة في الإيجاز، والتكرار لغوٌ وعيٌّ. وجد الرئيس حيلة في الادِّعاء أنَّ سبب تكراره الألفاظ هو التقوى، وأنَّ للسانه ثلاثة فلاتر لسحب النيكوتين والقطران، وهي فلاتر الصدق والحقّ والأمانة، أحدُها يغني عن الآخر، فالصدق هو الحقّ، والأمانة فرع من الصدق، والصدق فرع من الحق، فهو فلتر واحد بثلاث شعب. وهناك فلاتر أذرعه الإعلامية التي تصوّب وتحذف المقالات من المواقع، وتغير أسماء الجسور، وأسماء الشوارع والمحاور، فقد علق اسم محمد بن سلمان في أحد الفلاتر، فتغيّر اسمه إلى اسم الفريق كمال عامر!
وقبل فحص الفلاتر بالطبل المغناطيسي، أذكر أني كنتُ أعمل في شركةٍ تستورد فلاتر عنفة ريحية، بالعملة الصعبة، في الصحراء والغبار، وكانت باهظة الثمن، فتقدّم مهندس واقترح تنظيفها بطريقة زهيدة بالعملة الوطنية، بدلًا من الاستيراد في سلاسل توريد غدوها شهر ورواحها شهر، لكن السلطات رفضت. وحمدنا الله أن المهندس لم يُعتقل بتهمة خيانة الوطن، فالفلاتر جزية، والإبداع خيانة عالمية، والعقول مكانها الغرب.
الفلتر لفظ عربي، وإن بدا ظاهره لاتينيًا، وهو من فعل فلت. يقول السيسي في خطبة قديمة عصماء، وهو يعقد يديه على صدره، ويروي قصة الخيانة، إنهم قالوا له: "نعمل لقاء"؛ أي طلبوا منه شرف مقابلة تلفزيونية، ثم يكرّر لنا عبر الفلتر: "نعمل معاك إيه: لقاء". ولا يوجد في هذا الخبر ما يستدعي الفلترة، أو أمرًا يستحقّ الفحص والتدقيق أو التكذيب. "وقلت: طيب كويس".
وفي هذا ثرثرة على الناشف وليس فوق النيل المحجوز وراء سد النهضة. و"جيت قبل ما خلصت اللقاء"، وهذا أيضًا إسراف في السرد، يعرفه الكتّاب وعمال الاقتصاد في اللغة وتلاميذ الثعالبي. "قالوا إنهم ما ناموا البارحة"، فيقول السيسي مكرّرًا: "ما إيه؟"، الجواب: "ما نمنا البارح"، السبب في سهادهم وأرقهم أنّ المحاورين قالوا له: "أصل أنت قزاز ما نحبش نلمسو". يصمت الرئيس ويغير مواضع يديه الفصيحتين، ويسأل والكلام مصفّى شهدًا بالفلاتر: "قزاز إيه؟ ما نحبش نلمسه، ليه؟ لأن العمل اللي اتعمل كتير قوي"، معجزة مثل معركة حطين أو اليرموك أو رمضان التي لم تعد تُذكر في عهده. "إحنا كنا لازم شايفين"، والسرد الشعبي يتكسّر في الإعراب بين الماضي والتقرير والوصف والعيّ. يقول عنهم: "واحنا لمّا نتكلم معاك لازم نأخذ بالنا كويس"، أي نحذر من هيبتك ومقامك. يقول الرئيس مسرورًا بكونه قزازًا، تتغيّر حركة يده فهي أحد اللسانين، ثم يقول: "بعدين، بعدها بكم شهر" وقع انقلاب، يتابع: "كنا نفتتح مشروع للمناطق الخطر"، ويبدو على الرئيس القزاز الحذر، وهو حذر لكن حذر الواثق، فبادر أحدهم بقوله: "السجّادة الحمرا ماشيين عليها؟".
يقصد أن أحد عشاقه القدماء أنكر عليه المشي على السجادة الحمراء، والرئيس يبتسم، ويتهيّب من ذكر الإنكار لفظًا، وجعل "ماشي" بالجمع! وأغفل أمر السيّارة، فأوحى به إيحاءً، لقد استكثروا على منقذ مصر من مصير سورية والعراق سجّادة تمشي سيارتها عليه وهي في طوْر الحبو والرضاعة، فيتعجّب من خيانة المحبّين وحفر الطريق، ويشير بأصابعه: "بعد كم شهر كده نسيتوا القزازة، واتغيّرتوا؟" أيها الخونة الغدرة.
لكن فلاتر السيسي الأمنية تعمل بمردود كبير. استقبل بالأمس ميتا فريدركسن، رئيسة وزراء الدنمارك التي كانت تزور مصر في كبسة مباغتة، وقال لها: لم يخرُج قارب أو شخص واحد إلى أوروبا عبر حدود مصر البحرية أو البرّية منذ سبتمبر.
فلاتر الحق والصدق والأمانة، فلتر سد النهضة، فلتر الرطانة وفلتر الجنيه، وفلتر العقرب وفلتر الشبع، أما فلتر الفستان فشرّد بنا من خلفها يومًا أو بعض يوم.