غضبة عاطف أبو سيف

25 أكتوبر 2022
+ الخط -

لم يأتِ البيان الساخط الذي أشهره الروائي (ووزير الثقافة) الفلسطيني، عاطف أبو سيف، على اسم دار النشر الإسرائيلية التي نشرت روايتَه "مشاة لا يعبرون الطريق" (2019) مترجمةً إلى اللغة العبرية، من دون علمه، ورافضا ما فعلته. وكذلك بيان الدار الأهلية للنشر والتوزيع (في عمّان) المقتضب الذي أفادت فيه بأنّها، بوصفها ناشرة هذه الرواية، وصاحبة الحقوق بالاشتراك مع الكاتب، لم تعطِ هذه الحقوق لأي ناشرٍ إسرائيلي، ولم يوقّعا أي اتفاقٍ مع المؤسّسة التي نشرت الرواية بالعبرية. لم يكن هناك ما يبرّر في البيانيْن تعمّد عدم إيراد اسم تلك الدار، فقد أشاع اثناهما الظنّ بأنّ جهةً صهيونيةً إسرائيليةً في واحدةٍ من مؤسّسات دولة الاحتلال أقدمت على فعل الترجمة، بغرض التشويش على وطنيّة الروائي الوزير. كما أنّ سوء ظنٍّ قد يذهب إلى أنّ جهةً فلسطينيةً ما على صلةٍ بمؤسّسات دولة الاحتلال اقترفت ما أغاظ الصديق عاطف أبو سيف وأصدقاءَنا في "الدار الأهلية ..". ولكنّ تدقيقاً في المسألة سيفيد بأنّ ليس هناك فعلةٌ صهيونيةٌ مريبة، تسوّغ إتيان الروائي المجدّ على إيمانه بأنّ "المثقّف آخر من يُمكن له أن يهادِن على رواية شعبه"، فلم يطلُب القائمون على دار النشر التي بادرت إلى الترجمة من أبو سيف (ومن غيره) أن يرتكب مهادنةً كهذه.
يقوم على دار مكتوب (الإسرائيلية) التي نشرَت "مشاة لا يعبرون الطريق" (وعدّة روايات فلسطينية وعربية سابقاً) مثقفون فلسطينيون من الأراضي المحتلة في عام 1948، بمشاركة يهودٍ مناهضين للصهيونية، ضمن مشروعٍ لترجمة أعمالٍ أدبيةٍ عربيةٍ إلى العبرية، بدأ في 2016، كان في نواته التأسيسية الروائي الراحل سلمان ناطور (ترجم أعمالاً أدبية إسرائيلية إلى العربية)، يتفهّم جميع من فيه الحساسية الخاصة لعملهم، فلا يعمَدون إلى توقيع عقودٍ مع الكتّاب العرب من أجل إنجاز الترجمة، وإنْ يتواصلوا معهم أحيانا عبر وسيطٍ ثالثٍ، أو لا يفعلون، وذلك بعد اختياراتٍ للنصوص يعكف عليها مختصّون، بينهم أصدقاء ومعارف لصاحب هذه الكلمات (ولعاطف أبو سيف أيضاً). وإذ يحدُث أن "يُفاجَأ" كتّاب فلسطينيون وعربٌ بأن نصوصاً لهم نُقلت إلى العبرية، عبر هذه المؤسّسة، وضمن هذا المشروع، فلا يعني هذا أنّ "إثماً" يمسّ وطنيّتهم قد جرى ارتكابُه، لا سيما أن الأمر بعيدٌ كل البعد عن أي اتصالٍ، بأي شكلٍ وبأية صيغة، بين الكاتب وأي مؤسسةٍ إسرائيليةٍ تتبع دولة الاحتلال. بل، ولنا هنا أن نسأل عن الضرر المتوّهم في هذا الموضع. 
في الأول والأخير، طالما ألا تعاونَ أو تواصل بين الكاتب العربي مع أي جهةٍ تتبع الاحتلال، وطالما لا مقابل مادّياً ولا شراكاتٍ ولا اتفاقاتٍ في خصوص النشر والترجمة، فليُترِجم الإسرائيليون ما أرادوا (لهم دواعيهم وبواعثهم)، وهم يفعلون هذا منذ عقود، لمّا راحت جامعاتٌ وأكاديمياتٌ لديهم تترجم طه حسين ونجيب محفوظ وغسّان كنفاني وتوفيق الحكيم ومحمود درويش وغيرهم. يختلف الحال، إذا جرى التشديد على انعدام العلاقة، والالتزام به، من قبيل عدم تفويض الكاتب والناشر العربي أي جهةٍ للتواصل مع مؤسسةٍ إسرائيليةٍ صهيونيةٍ من أجل ترجمة هذا النص أو ذاك، يختلف عن الذي يمارسه كتّابٌ عربٌ تطبيعيون معروفون، تستضيفهم مؤسسات الاحتلال، وتحتفي بهم دور نشر إسرائيلية يوقّعون معها عقوداً، ويتقاضون منها عوائد وفوائد. 
إلى هذا الأمر (وغيره)، يحسُن العدّ إلى العشرة قبل أي غضبةٍ مُضريةٍ ضد الترجمة إلى العبرية، كما التي أذاعها عاطف أبو سيف. يحسُن تبيّن الأمور وفحصُها، ويعلم الوزير المثقف (يُقال إنّهم أخبروه بالترجمة مسبقاً؟) أنّ قضية فلسطين عويصة، وأنّ للمرابطين من أهل البلاد، في حيفا وعكّا والناصرة ويافا و...، أدواتهم في مقاومة العدو، وفي تأكيد هويتهم القومية العربية، وفي تشديدهم على انتسابهم البديهي إلى شعبهم الموحّد، ولعلّها من أدواتِهم أن يقيموا مؤسّسات نشرٍ للأدب العربي بالعبرية، فكان منها مشروع "مكتوب" (وغيره بالمناسبة)، ولمّا عملوا على نشر روايات لإبراهيم نصر الله وإنعام كجة جي ونجوى بركات وغيرهم، لم يخونوا فلسطين، بل كانوا ينقلون محكياتٍ فلسطينية ونصوصا عربية رهيفة إلى لغة المحتل. وفي رواية "مشاة لا يعبرون الطريق" حكيٌ عن غزّة في غضون الحصار والاحتلال والانقسام، والتباسٌ بين واقعٍ ومتخيّل، وإفادةٌ من المفارقة والفكاهة... ما الذي يُغضِب في أن تُقرأ بالعبرية؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.