غزّة وصوَر

غزّة وصوَر

18 نوفمبر 2023
+ الخط -

أحياناً، تكون الصور معبّرة أكثر من شريط فيديو. جمادُها في لحظة محدّدة يدفع إلى تأملها والانخراط بعمقها، ليصبح عمقنا أيضاً. صورة الأطفال في مستشفى الشفاء في قطاع غزّة تؤلم كل من يملك ذرّة إنسانية، وتوجِع حقيقة أن مادّية البشرية لا تزال أقوى من مشاعر وعواطف وبديهيات. عادةً، حين تصدمنا صورة تبقى في لاوعينا حتى تصدمنا صورةٌ أخرى. لا يتوقّف تدفق الصور ولا تتالي صدماتها. الاحتلال الإسرائيلي ماهرٌ في استنباط صور دموية كفيلة بتحطيم كل ما تعنيه الإنسانية. أطفال مستشفى الشفاء ليسوا سوى ترجمة لعمقنا الضعيف. الطفل، في بلاد الغرب خصوصاً ووفقاً لمفاهيمه، محميٌّ من أنظمتها وقوانينها. ممنوعٌ على أحد تدمير روحية طفل أو التنمّر عليه. هذه الدول غير مكترثة بأطفال مستشفى الشفاء. طبعاً، لأنهم ليسوا من عالمها، ولأن الانحياز الفاقع للظلم في حالة إسرائيل يُعميها عن النظر إلى كل طفل في صورة تضمّه مع أطفال عدة.

في مقابل صورة مستشفى الشفاء، تُظهر صور وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، لا غيره، صاحب قول "نحن نحارب حيوانات بشرية"، في إشارة إلى الفلسطينيين، أنه يبدو في بعض الأحيان تائهاً، رغم سعيه إلى الإيحاء بأن الأمور تحت السيطرة. وبزيّه الأسود في مؤتمراته شبه اليومية، يظهر كأنه مؤتمن على تنفيذ مهمّة هي الأكثر إجراماً في القرن الـ21. كم هو سهل أن تكون قاتلاً وتنام قرير العين، حين تكون مجرماً ولا تبالي بحيوات البشر. غالانت هكذا.

صورة أخرى: إريك زيمور. الفرنسي من أصول جزائرية. مشاركاً في تظاهرة ضد "معاداة السامية" في باريس، الأحد الماضي. هناك التقى نخبة التطرّف اليميني، لدعم الاحتلال في عدوانه على غزّة. كان زيمور فرحاً، وكأنه يحقّق ثأراً قديماً، بحجة أن الساحات الفرنسية في الأسابيع الماضية عجّت بالمتضامنين مع الفلسطينيين. يعلم زيمور أن "معاداة السامية" لا تعني القبول بذبح الفلسطينيين، لكنه لا يبالي. في النهاية، ليس سوى كائن غارق في قوقعة تضمّ كل شيء، سوى الإنسانية.

سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية البريطانية السابقة، التي أُقيلت من منصبها بسبب اتهامها شرطة لندن بأنها "منحازة للفلسطينيين". صورها التي تُظهرها وكأنها تصرُخ، تؤكّد أن العامل الشخصي هو ما طغى عليها في حكمها السياسي. قالت إن "أفراداً من عائلتها الصغيرة يخدمون في الجيش الإسرائيلي"، على اعتبار أن زوجها إسرائيلي ـ جنوب أفريقي. صورة برافرمان وهي تغادر مقرّ الحكومة البريطانية تشرح فداحة الفوضى اللندنية، منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي.

آخر هذه الصور، للرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن. الثنائي الأكثر تواصلاً مع الإسرائيليين منذ بدء العدوان على غزّة. لا يكترثان بما إذا كانت هناك اعتراضات بين الموظفين داخل الإدارة الأميركية ووزارة الخارجية، ولا إذا كان هناك دوسٌ منهما على قيمٍ ومبادئ. ديك تشيني ودونالد رامسفيلد نموذجان سابقان في ذلك. لا يهمّ إن كنت ديمقراطياً أو جمهورياً في واشنطن، فعند صناعة القرار يبدو النظام واحداً. وصورة بايدن وبلينكن، وخلفهما أعلامٌ أميركية وإسرائيلية، تجزم حقيقة واحدة، أن الدفاع عن إسرائيل هو عن الوجود الأميركي.

وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان. كم من الصور التي التُقطت له، وهو يتوعّد ويهدّد في الأيام الأولى للعدوان على غزّة. نحن الآن في اليوم الـ43 من العدوان على غزّة. الإيراني مرابض في طهران، وأطفال مستشفى الشفاء وحدهم في قلب مدينة غزّة.

لاحقاً، ستتغيّر طبيعة الحكم في هذه الدول بموجب انتخابات فيها، وستتُنسى كل الصور، حتى صور أطفال مستشفى الشفاء ستُنسى. لن يبقى سوى واقع واحد، أن هذا العالم مسكون بغرائزية القوّة لا بعقلنة الوعي، ولن يتأخّر في التأكيد أنه في عام 2023، ما زلنا بعيدين عصوراً ضوئية عن التنوير والإنسانية.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".