غزّة وأدعياء الليبرالية العرب

12 أكتوبر 2023

نيران إطلاق وحدة مدفعية إسرائيلية قرب مستوطنة نتيفوت قذائفها باتجاه غزة (11/10/2023/Getty)

+ الخط -

وجد بعض مدّعي الليبرالية العرب في أحداث غزّة أخيرا إثر حركة التحرّر والانفكاك من الحصار الصهيوني التي قادتها المقاومة في غزّة تجاه السلطة الصهيونية، وخصوصا في مستوطنات غلاف القطاع، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، فرصة سانحة، للهجوم على فكرة المقاومة نفسها، على خلفية آراء سلبية مسبقة تجاه حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والتي تهيمن على القطاع منذ عقود.

تمادى بعض هؤلاء في التحريض المباشر على المقاومة، في ظل ظروفٍ صعبة، بشكل غير مسبوق، تواجهها هذه المقاومة وباقي الشعب الفلسطيني في غزّة، بحجّة أن نجاح المقاومة العسكري في تفكيك خط المستوطنات حول القطاع واقتحامها بمفاجأة عسكرية واقعية ضخمة، سيشجّع مجموعات سياسية دينية أخرى في باقي البلدان العربية على الاستيلاء على السلطة، وفي ذلك الادّعاء مغالطاتٌ ضخمة، لا يمكن النظر إليها ببراءة الاستنتناج المباشر، فحماس أصلا لم تستول على السلطة، بل كانت ضحية لدخول الممارسة الديمقراطية نتيجة انحيازات حكومات عربية وغربية ضد خيارات الناس الحقيقية يومها. ثم، ويا للمفارقة، يمكن أن نجد في مثل هذا الادّعاء اتهاما غير مقصود من أدعياء الليبرالية هؤلاء لبعض الأنظمة العربية أنها تشبه نظام الاحتلال الإسرائيلي!

وبغض النظر عن اتفاقنا واختلافنا مع "حماس"، باعتبارها حركة مقاومة تتكئ على النظرية الدينية في شكلها الإسلامي، تبقى حركة مقاومة شعبية حقيقية مارست العمل السياسي وفقا لاشتراطاتها المتاحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي اشتراطات متقدّمة على كثير مما هو موجود بالفعل في أغلب الدول العربية. ومع هذا تتعرّض هذه المقاومة، دون غيرها تقريبا، لانتقاداتٍ غير أخلاقية ممّن يتجاهل الواقع العربي برمته على صعيد شكل الأنظمة السياسية، وما توفره من حرّيات وهوامش ديمقراطية سياسية وغير سياسية.

ولعل من المناسب هنا أن أذكر بفكرة موجزة للراحل شفيق غبرا رحمه الله، عبّر عنها في أكثر من صيغة بمناسبات تشبه مناسبة الأحداث التي تمرّ بها غزّة، يقول: "بالإمكان الاختلاف مع حماس لو كانت غزّة محرّرة وبلا احتلال وحصار، لكننا لا نملك هذه الرفاهية في ظل احتلال ومقاومة وظلم". وهذا يعني أن حركة حماس في شقها السياسي، مثلها مثل أي حركة سياسية في العالم. ومن المنطقي، بل والمفروض، انتقادها على الدوام، شرط أن تغادر الظرف الاستثنائي الطويل الذي نشأت تحت ظلاله واستمرّت بمدافعته سنوات طويلة، في شقّها المقاوِم، من غير أن تحظى بتلك الرفاهية التي تحظى بها حركات سياسية، بل وحكومات عربية. ولكن الانتقادات من هذا النوع تواجهه حماس من تلك الفئة من أدعياء الليبرالية العرب. وهذا ليس دفاعا عن "حماس" ولا تبرئة لها في شقها السياسي، ولا نفياً لأخطاء كثيرة وقعت فيها من غير الممكن تجاهلها حتى من أصدقاء لها، ولكنه توضيح للواضحات من الأمور، عندما يتعلق الأمر بواقع غزّة، فهذا القطاع يعيش حصارا محكما منذ عقد ونصف العقد تقريبا، ويعيش أهله حرمانا حقيقيا من أبسط مقوّمات الحياة العصرية من الغذاء والدواء والكهرباء والماء والإنترنت وغيرها، ما عطّل حرية الحركة والتنمية وعرقل عمليات البناء في أدنى أشكالها، وأثر على نوعية الحياة داخل القطاع على صعيد التعليم والصحة والإسكان وبقية مستلزمات العيش، وهو ما رفع من معدّلات البطالة وحدة الفقر. ورغم هذا، لم يستسلم الفلسطينيون في غزّة لذلك الواقع الأليم في سجنهم الكبير، بل كانوا دائما يحاولون ابتكار حلول خاصة بهم، ليس لممارسة الحياة وحسب، بل أيضا لمقاومة المحتل كما لم تفعل أي مدينة أخرى تمر بتلك الظروف القاهرة نفسها. ومع هذا، يأتي الآن من يطالبها بأن تحكم قطاعها المحاصر بخلاصة الديمقراطية في أقصى نماذجها المثالية!

كشفت حروب غزّة وأحداثها المتوالية الكثير، ولكن أحد أجمل ما كشفته لنا الوجوه الحقيقية لأدعياء الليبرالية العرب.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.