غزّة تشبه وائل الدحدوح
لا يطوي ليل غزّة أحزانه إلا بتشييع مزيد من الشهداء، ولا يستيقظ نهارٌ من رقاد الموت إلا سعيا إلى الحياة. وائل الدحدوح أحد هؤلاء. يودّع عائلته على دوي صواريخ العدوان الإسرائيلي، ويتشبث بحياة لمن تبقّى، لرواية قصّة أكبر إبادة في القرن الحالي تعرّض لها مدنيون في منطقة صغيرة في الشرق الأوسط، وتُخلّد حتى يوم تحقيق العدالة. يشبه الدحدوح غزّة، وهي تشبهه. أحلام أطفالٍ يحوّلها الاحتلال إلى كوابيس، وطموحات كبار يقلبها خيبات أملٍ مزنّرة بأحزمة ناريّة في مدن القطاع وبلداته.
لا يمكن لإنسان واعٍ المحافظة على رباطة جأشه أمام هيبة الموت. لا بدّ له من عبور معمودية روحية ونفسية عميقة، ستترُك آثارا لا تُضمحلّ طالما بقي حيا. الأساس هنا هو التكيّف مع ما حصل، للاستمرار في هذه الدنيا. وائل الدحدوح، الذي لملم نفسَه حين استشهد عديد من أفراد عائلته، أثبت أكثر من مرّة أن قدرة الإنسان أكبر مما يُظنّ، وأن القتال من أجل الحياة هو أفضل تكريم للشهداء. ذكراهم ستبقى، خصوصا لدى الجيل الأول، ذخائر متغلغلة في كل نقطة دمٍ على امتداد شرايين الجسم. صعبٌ على الإنسان الوقوف على قبور أحبّائه. الذاكرة تعصف. العاطفة تلتهب. المشاعر تشتعل. وحدَه العقل يكون في استراحةٍ قسرية في مثل تلك اللحظات. صعبٌ على ذوي عشرات آلاف الشهداء في غزّة ما يشهدونه في يومياتهم، والأصعب أنهم يقرّرون الاستمرار والتمسّك بالحياة. ما مرّ به وائل الدحدوح، لا مرّة واحدة بل مرّتين، لهو أقسى ما يمكن لنفسٍ تحمّله. غير أنه، في قرارة نفسه، يُدرك أن لا بديل له سوى المقاومة. ليس في الأمر تحدّ أو بطولة أو صياغة أسطورة، بل قناعة كل من يعبر الجسر بين الموت والحياة. هناك ظرفيةٌ تستولدها خلوة ذاتية لمن فقد أحبّاءه، حين يكون المعني واقفا على خيط رفيع بين اليأس العدمي ومواصلة الكفاح. في هذه الظرفية، حين يكون القرار تائها في وحشة الوحدة، يفكّر الشخص المعني بأحبائه: "ما الذي سينصحونني به في حيرتي؟"، لن يكون الجواب سوى: "لا تيأس".
يُدرك وائل الدحدوح، الذي تحوّل مع رفاقٍ له، إلى عيون غزّة ونبضها، أن الاستمرارية خيارٌ وقدر، لا واحدهما. خيار مستولدٌ من تلك الظرفية، وقدرٌ لعدم القدرة على السيطرة في خضمّ العدوان، سوى على الذات، لا المجتمع. في الحالتين، وائل الدحدوح تحوّل إلى رمزٍ للخيارات والأقدار، في وقتٍ لم يكن يفكر بذلك، منذ أشهر قليلة. دائما، وليس تفصيلا، ما تفاجئك الحياة في جبروتها، لتجعلك مجرّدا من كل أنواع التحسّب. وهنا، لا تملك إلا ذاتك، ووحدك فقط تستطيع السيطرة عليها.
نحن اليوم في مستهل الشهر الرابع من العدوان الإسرائيلي على غزّة. الآلاف سيبقون مشاريع استشهاد، وآلاف غيرُهم سيصبحون جرحى ومشرّدين وجياعا. لا يمكن لعاقل التفكير أنه في عالم "القرية الصغيرة"، هناك من يبرّر الظلم اللاحق بفلسطينيي غزّة، ويقبل بالذرائع الإسرائيلية لارتكاب المذابح، ويرفض اعتبار المدنيين بشرا. هذا عالمٌ لا يشبه ما كان يتصوّره مثاليون، على اعتبار أنه كلما اكتشف الكوكب ذاته، قلّت النزاعات. لا، الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن، بوعيه ولاوعيه، القبول بنوع من السلوك الإنساني. لا تتعلق القضية بغزّة حصرا، بل بعقود من الاضطهاد والإبادات. يكفي النظر إلى مجلس الحرب الإسرائيلي. متطرّفون مجبولون من عقيدة تعتبر كل إنسان غيرهم أقلّ شأنا منهم، ومسكونون بهاجس التفوّق. ألم يسقط كل من اعتنق "فائض القوة" عبر التاريخ؟ ألا يفكّر الإسرائيلي أن وائل الدحدوح ورفاقه وسكان غزّة هم من سيبقون في النهاية، وهو من سيتراجع؟ ليأخذ نموذجا صغيرا في الضفّة المحتلة، كم مرّة سعى إلى إخماد بركانها، ولا يزال يقتحم وينسحب من بلداتٍ ومدنٍ ومخيّمات فيها؟ ألا يظنّ أن البقاء ليس للأقوى بل للمتكيّف؟ فكيف إذا كان هذا الفرد أو المجتمع صاحب الحقّ؟
ما حصل لوائل الدحدوح لن يُخضع أحدا من سكّان غزّة، لأن الإصرار المغروس في قلب كل من رافق عائلته في رحلة استشهادهم، أقوى بكثير من إرادة جندي إسرائيلي يعدّ الأيام للعودة إلى مستوطنته. لاحقا، لن تحميه أسوار أي مستوطنة. هذا قدرٌ وخيار.