غزّة التي فعلت

19 أكتوبر 2023
+ الخط -

وكأنها جرحنا الذي لا ينطق، وفجأة نطق، وكأنها كل ذنوبنا وضعفنا وهواننا وبراءاتنا وهزائمنا وقد تكوّمت على البحر، وفجأة هزّت البحر، فجاءت حاملات الطائرات والسفن كي ترى هذا الذي نطق وبهذه الشجاعة مرّة واحدة، وكأننا لم ننطق في أي يوم إلا الآن، وكأنهم قد تأكّدوا أننا مُتنا، وفجأة تحرّك الميّت، فكيف يتحرّك ميّت بتلك الشجاعة وبهذه الخفّة، هل لأن أرواحهم قريبة من البحر، والقريب من البحر يجيد الحلم، فإن مات لن يُخيفه أبدا موت البحر مع الماء وفي الماء، فالماء أكثر رحمةً من قسوة الناس.

على الفور، جاءت السفن وحاملاتُ الطائرات إلى جُرفٍ صغيرٍ من الأرض مواجهٍ للبحر ومليء بالبشر المسجونين داخل أحلامهم، ويحرُسهم البحر من الشمال تعاونا مع السجّان، ومن فوقهم الأقمار والطائرات، كأنها قطعةٌ من الأرض معزولةٌ ومحاطةٌ بالعداء والتربّص والكراهية، وكأن ذلك الجُرف الصغير سيقتل كل من في القارّات في العالم بأسلحةٍ نووية، وكأن سليمان قد نادى على كل طيوره أن تعالوا إلينا بخيلِكم وقساواتكم.

قشرة صغيرة من الصخر تشرب القهر من سنواتٍ من ملح البحر حرّكت كل هذه السفن التي شمّرت عن جاهزيتها خلال يومين فقط كي لا تغرق "إسرائيل" في البحر، وكي لا تطاول القنابل ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا، وحتى أوكرانيا، مع أنها في قلب الحرب.

ما كل هذا الخوف؟ كيف لقشرة صخرٍ هشّة يسكنها شبه مساجين، إلا من أحلامهم تجلب إليها كل تلك المخاوف من قارات العالم؟ هل فيها مصانع للطائرات، أم فيها مناجم خفيّة للذهب أم أسفلها أنهار عذبة ستفيض على العالم في القرون المقبلة، هل وصلت غزّة بفضل تخصيب اليورانيوم إلى حافّة الصناعة الخطرة؟ هل تحوّل فجأة عمّال الزراعة والصيّادون والمعمار بالملايين كلهم إلى قتلة ومخربين وقتلة أطفال، وهكذا بدأ سعار العالم المتحضر، وهذا معلم ألماني يصفع طالبا لأنه رفع علم إسرائيل، فما الذي فعلته غزّة خلال تلك الأيام القليلة، وأزعج العالم؟

هل سرقت كل أغنام العالم مرّة واحدة، هل نقلت كل النفط من العالم وخزّنته تحت قشرتها الهشّة بالقرب من مياه البحر، هل نقلت كل ذهب أميركا الجنوبية في مراكب إسبانية لحسابها، هل قامت بحملاتٍ لاحتلال دول أخرى في البلقان، أو بالقرب من الكاريبي، هل تضارب في تجارة توابل العالم وتسرق السفن مع المهرّبين، هل قطعت على العالم طريق رأس الرجاء الصالح، هل ذهبت إلى "إسرائيل" في المنافي أو التيه، واحتلت مزارع زيتونهم وحرقت لهم صحف موسى.

عرايا يدافعون عن مياههم القليلة وأرزاقهم الشحيحة وأحلامهم في سجونهم المفتوحة على متريْن في البحر، صخرة هشّة محاطة بالمضايق التي تُفتح وتُغلق، ومُحاطة بالطائرات والقبّة الحديدية والبحر والصواريخ والعوز. هل محرّم على المسجون الغضب لأرضه وبيته المهدّم، أو محرّمة عليه كراهية المحتل الذي أتى من كل بلدٍ كي يزرع ويهدم حتى المقدّسات، بل أعز مقدّساته، وعليه أن يصمت هكذا حتى يموت أو يقتل؟

غزّة لم تضارب لا في النفط ولا في الذهب، ولا تاجرت أو نقلت العبيد في السفن، ولا دخلت المستعمرات، وعادت محمّلة بالذهب والفضّة والألماس، ولا باعت الأسلحة لمغتصبي الحكم والعروش في الدول.

هي تحاول، تحاول أن تعلم الأبناء حرفة الصبر والحرب، كي تعيش بالقرب من البحر، كي تأمن وجودها تحت الرصاص، كي يصيد الصيّاد آمنا في البحر، كما تفعل سفنكم في قلب كل محيطات العالم، كي يُتاجروا مع العالم بعيدا عن زنازينهم في كل الموانئ مثل خلق الله، كي يشمّوا الورد مع الناس، كي يكتبوا الشعر والقصة والرواية مثل العالم، كي يعزفوا الموسيقى، وكي يقرأوا الكتب في الجامعات والمعاهد، لا أن يفتّشوا جوازات سفرهم ومرضاهم في المضايق، كي تكون لهم أحلامهم كبقية العالم من دون رقيبٍ من البحر أو السماء، وكي لا يتسوّلوا صدقات العالم، كي تكون لهم شوارعهم كما في إسبانيا وحدائقهم، كما في بريطانيا وطائراتهم، كما في ألمانيا وسبعة آلاف سنة كما في مصر، فالعالم هو السبب في أنهم فقط قد اضطرّوا لصنع قنابلهم وكل أسلحتهم البدائية، والقادم قد يكون أسوأ من ذلك بكثير، لو ركب العالم رأسه من أجل مليونين من البشر فوق جُرفٍ صخريٍّ يحرُسه البحر.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري