عودة خليل العواودة: من الذي كسب؟
فرح كثيرون بالخاتمة السعيدة بأوديسة خليل العواودة من المسغبة. هي غير حزينة لكنها ليست الخاتمة، فالعدو خؤون للمواثيق ونقّاض للعهود. لقد عبَر العواودة مفازة شاقّة، وصام نصف سنة إلا بضعة أيام، والجوع أشدُّ من العلّة، وقد احتمى بالجوع من الأسر والأغلال. والجوع قيد وسلاسل، وهو معتقلٌ إداري، والاعتقال الإداري إجراء ورثه المستعمر الإسرائيلي عن سلفه غير الصالح المستعمر الإنكليزي، إذا أعوزته التهمة، وقد اعتقل مرّات عديدة، فقد قضى بضع عشرة سنة في القيود.
كانت حمية الجوع حيلة يتبعها الأولاد من أبناء جيلي مع الآباء، كان أحدهم إذا أراد شيئًا ومنع عنه، امتنع عن الطعام، قد تكون مجلة أو حقيبة مدرسية أو رحلة أو لعبة، وشتّان بين ظلم العدو ورحمة الأب.
وقد اضطر العواودة للعودة إليها بعد أن ضاقت به السبل مع عدوه، وليس العدو من يسترحم، فهو ظالمٌ لا يرحم، فالمقصود من المجاعة رعاة العدو وعرّابوه، والمعدة الخاوية سبيل قلّما أجْدَت أو أفلحت في السجون العربية، وباتت شهيرة قصة المنذر بالإضراب عن الطعام، الذي روى قصته الشاعر السوري فرج بيرقدار في كتابه "خيانات اللغة والصمت"، فأُجبر على أكل فأر ميت، ليس خوفًا من تسرّب خبر إضرابه عن الطعام إلى الرأي العام، فلا رأي عاما في سورية. الرأي العام هو في أوروبا، وهو يعطف على بعض المساجين ويعرض عن بعض، وكانت العقوبة بلع الفأر الميت، لأنه تحدّى إدارة السجن.
في فيلم "البحث عن الذهب" لشارلي شابلن يجوع أبطال الفيلم فيطبخون جزمة، وهي قصة مأخوذة من واقعة سقوط طائرة بين الثلوج، فجاعوا وأكلوا لحوم الموتى. وفي قصة جاك لندن "الجوع" يدمن الجائع على الأكل بعد حرمانه منه زمنا حتى يتخم ويسمن، وكان باحثًا عن الذهب أيضًا. في مسلسل "صح النوم"، يقصد التائب غوار مقهى للبحث عن عمل، فيجد صاحب السجن القديم قد صار مالكًا له، فيقترح أن يعمل عنده ساقيًا، بأجر بخس، وينزل في عرض الأجرة إلى أن يعمل عنده بطعامه وشرابه، ثم يقترح عليه أن يصوم له يومين! لكن صاحب المقهى يأبى تأجير صاحب سوابق.
الصوم مشقّة، والصائم المفاخر في الفرض والنافلة، وقد يسوء خلقه، ويعلن صومه لمن حوله، رياءً أو سعيًا في المواساة والعطف، وهو صوم لا يطول أكثر من عشرين ساعة، وقد طال صيام هذا الفدائي أكثر من مطال الشاعر الشنفرى، الذي كان يديم مطال الجوع حتى يميته. ويجد السُمان والبدناء جهدا في الصوم الكيتو، وهو صيام يمتنع فيه الصائم عن الكربوهيدرات، وقد صام العواودة، حتى ذاب لحمه وظهرت عظامه، وهو ما تفعله السجون السورية بالسجين السوري كرهًا. وفي إحدى شهادات المعتقلين السوريين الناجين أن معتقلًا رجا السجان أن يشبعه مرة واحدة وليفعل به ما يشاء، وفي اليوم التالي جازاه على شبعه ضربًا حتى الموت. والحكومتان المصرية والسورية تسعيان إلى تخسيس الرعية، ويمكن للقارئ فهم التخسيس بمعنييه، البدني والأخلاقي، فالسوري يأكل بالبطاقة الذكية، وتقلص الرغيف المصري حتى صار كالتعريفة، مع أنَّ الأشياء تتمدّد بالحرارة، فلا بد أن مصر تتعرّض إلى زمهرير اقتصادي، وفي الغرب يستعملون لفظ الريجيم للنظامين؛ الدكتاتوري والطعامي.
استخفَّ فرعون قومه فأطاعوه، والاستخفاف طرائق. يذكر الفقهاء والمفسّرون أنَّ المقصود بالخفّة التجهيل والاستفزاز والطاعة، ولم يقل أحد بالتجويع، لعل أحد سبل الاستخفاف هو التجويع. المواطن الجائع خفيف الوزن ومطيع، لقد بات الوطن والمواطن على العظم. المعدة هي بيت الطاعة، كما أنها بيت الداء.
بارك كثيرون للعواودة عودته إلى زوجته وبناته من ضجعةٍ طويلةٍ مع أبأس ضجيع، ونرجو أن تصدق الحكومة الإسرائيلية في وعدها بإطلاق سراحه، وهو تحت البصر واليد، وتستطيع اعتقاله متى شاءت، لقد كسبت أكثر مما كسب العواودة.
لم يخبرنا أحد كيف كان ينام العواودة مع الجوع؟ ماذا كان يرى في أحلامه؟ كيف كان يتنفس؟ كيف كان يعلل صيامه؟ لقد انتقم منه أكلة لحم الأرض، وأذاقوه من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر.
الذهب الذي كان يبحث عنه خليل العواودة هو الحرية.