عن "ME TOO" مرة أخرى

12 ديسمبر 2020
+ الخط -

يبدو أن حملة "me too" الدولية التي قامت بها مجموعات نسوية ونسائية في العالم قبل سنتين قد تركت أثرا مهما في بلادنا العربية، وشجّعت النساء العربيات على الكلام عمّ تعرضن له من انتهاكاتٍ وتحرّشات جنسية، وما سبّبه لهن ذلك من مخاوف وقلق ونفور، في مجتمعاتٍ لا تحمي المرأة على الإطلاق، ومستعدّة لتحميلها المسؤولية حتى لو تم قتلها على يد رجل ما، (زوج خطيب أخ أب قريب .. إلخ)، إذ أن الذهنية التي تسيطر على مجتمعاتنا هي الذهنية الذكورية السلطوية البطريركية (دينية وقبلية وعائلية)، بكل استعلائها العنيف والمسيطر، والذي يبيح لنفسه التحكّم في مصير النساء (بنات القبيلة)، وانتهاك أجسادهن وحرّياهن الفردية وقرارتهن وحياتهن، بوصف الاستعلاء هذا هو حامي حمى الشرف (العرض)، فنساء المجتمع، مهما كبر هذا المجتمع أو صغر، هن لسن سوى "عرض" الرجل، له وحده حقّ التحكم فيه، مثلما له وحده حق الاستمتاع بمفاتنه.

تنتشر على السوشال ميديا بين فترة وأخرى حملاتٌ لفضح شخصيةٍ ما متورّطة في حالاتٍ لا تحصى من التحرّش ومحاولات الاغتصاب والاستغلال الجنسي والتهديد بالفضح، والجامع بين هذه الحملات أن معظم "أبطالها" المتحرّشين هم من الأوساط الأكثر وعيا وتعليما وتحرّرا في المجتمع، أعني الوسط الفني والثقافي ووسط المجتمع المدني ممن يفترض بهم تجاوز موروثات مجتمعاتهم وبيئاتهم، فشرط الإبداع الأول هو الثقافة. الموهبة لا تكفي وحدها، غير أن تعريف الثقافة يبدو غير واضح لهؤلاء، الثقافة بما هي أولا سلوك مدني يحترم خصوصية الآخر، ويدرك أن التمييز على أساس الجنس والإستعلاء الذكوري السائد، بكل تبعاته، ليس سوى نتاج تحالف سلطوي (سياسي وديني) لإضعاف كل قيمةٍ مجتمعيةٍ يمكن التعويل عليها للتغيير نحو الأفضل. بيد أن الطبع قد يغلب التطبّع كما يقولون، فالسلوك الحضاري الذي يجب أن يتمتع به هؤلاء المعتدون لا يشمل كل سياقات حياتهم، فبما يتعلق بغرائزهم يعودون إلى الذاكرة الجمعية المتراكمة منذ تاريخ طويل، ذاكرة تفوّق الذكر على الأنثى، وقهرها عبر الجنس العنفي، ومثاله الاغتصاب أو التحرّش أو اللمس، من دون الاكتراث بما ترغبه الأنثى، أو بموافقتها على الأمر، هذا السلوك السادي هو أساس العنف والاستبداد والإقصاء والقمع، سواء السياسي السلطوي أو المجتعي الديني. ولا يبدو أن هناك أملا في تغيير حقيقي، إذ لم يتم نسف هذا السلوك من أساسه، عبر تفكيك بنية هذه الذهنية الاستعلائية، واستبدالها ببنيةٍ يتساوى فيها الجميع.

وقد يقول أحدٌ إنه حتى في المجتمعات المتقدّمة ينتشر التحرّش والاغتصاب بكل أنواعه، وهذا من نوافل القول طبعا، بيد أن السياق الجمعي في المجتمعات المتقدّمة رافضٌ هذه الظواهر، والقوانين تعاقب المتحرّش والمغتصب، بوصف ما قام به جريمة كاملة، وهو ما يجعل المتحرّش يرتدع عن فعلته، أو على الأقل يتردّد قبل اختياره ضحيته، وهو أيضا ما يجعل من المتحرّشين العرب أشخاصا طبيعين في تلك المجتمعات، إذ يدركون عاقبة أفعالهم، بينما يتركون لأنفسهم فعل ما يشاءون مع نساء مجتمعاتهم، فهم يعرفون أنهم ناجون بأفعالهم، إذ لا قوانين تعاقبهم، ولا مجتمعات تزدريهم. على العكس تماما، تتم التغطية على ما قاموا به، ويتم تحميل ضحاياهم مسؤولية الأمر، وتشارك في هذه التغطية صديقاتٌ أو قريباتٌ للمتحرّش، ونساءٌ يؤمنّ بأن الرجال قوامون عليهن، وأن الأنثى هي من تعرض نفسها لهذا، بخروجها عن الطاعة، (خروجها للعمل مثلا أو للتعليم أو لأي سبب آخر)!

تعلّق امرأة على واحدة من حكايات تحرّش عديدة، قام بها مخرج سينمائي عربي "هي البت دي مش عارفة إن الفن حرام. يعني إيه حاتاخد كورس في الإخراج، هي اللي جابتو لروحها". بينما تعلق أخرى على حكاية مشابهة، ترويها شابة عن ناشط مجتمع مدني معروف، قام بهذا الفعل عشرات المرّات مع فتياتٍ مختلفات، وتم فضحه بين منظمات المجتمع المدني، ولم يبادر أحد لتوقيفه عن عمله، "ليش لحتّى تقعد معه بأوضة مقفولة لو ما كانت هي أصلا فلتانة". عشرات بل مئات التعليقات المشابهة تتركها نساء على قصص التحرّش التي يقوم بها رجالٌ أو شبّان لهم نفوذ ما في أوساطهم، تكشف مدى جهل النساء العربيات بكينونتهن وبحقوقهن، وتفضح مستوى الانحطاط في المجتمع العربي الذي يبيح تسلّط الذهنية الذكورية وسيادتها، إلى حد تقمصها من عددٍ لا يُستهان به أبدا من النساء، وهو ما سيجعل من أمر تفكيكها بالغ الصعوبة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.