عن مسلسل "النار بالنار"

17 ابريل 2023
+ الخط -

في زحمة الموسم الرمضاني المكتظ إلى درجة التّخمة، المتنوّع، الحافل بأعمال درامية كثيرة من شتى البلاد العربية، ما يتطلب تفرّغاً تاماً لمتابعة هذا الكمّ الكبير من المسلسلات الرمضانية، وهو الأمر المستحيل من الناحية الواقعية، لأن ذلك يستدعي أن يتوقّف الواحد منا عن ممارسة حياته بشكل طبيعي، وأن يكرّس كل وقته للتسمّر أمام الشاشة. 
يجد المشاهد نفسه، في كل عام، في حيرة تامة أمام هذا السيل الجارف من الخيارات، ولا يملك من حلٍّ سوى انتقاء عدد محدّد من المسلسلات، يتناسب ووقته وظروف عمله وطاقته، فينتقي ما يظنّه الأقرب إلى مزاجه وذائقته. ولا بد له من الاستعانة بالمراجعات النقدية والانطباعات والآراء وردود الأفعال، كي يتمكّن من تحديد خياراته. والحق أن هذا الموسم يتميّز بأعمال كثيرة، قوية ومتميّزة، وتستحقّ المتابعة، لعل من أبرزها مسلسل "النار بالنار" الذي يتصدّر قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة في الموسم الرمضاني، وهو من دون شك الأكثر جرأة ومهارة في ملامسة الواقع القاسي الخشن والمؤلم. 
العمل من تأليف رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز، وتمثيل عابد فهد وكاريس بشّار وجورج خبّاز وطوني عيسى وزينة مكّي وغيرهم. تدور أحداث الحكاية في حيٍّ شعبيٍّ فقير معدَم في بيروت، يعاني سكّانه ظروف حياة شاقّة صعبة، إذ يفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة من خدمات كهرباء وماء ووقود وتتفشّى بين قاطنيه البطالة والعنف والنشاط الإجرامي المنظم من سطو وقتل وتهريب. ويتطرّق إلى الواقع البائس الذي يعيشه اللاجئ السوري في لبنان، من حيث المعاملة العنصرية من لبنانيين رافضين واقع اللجوء، والذين ينظرون إلى اللاجئ السوري بعين الاستعلاء والكراهية والنقمة، باعتباره منافساً لهم في لقمة العيش الصعبة، في ظروف الانهيار الاقتصادي وغلاء الأسعار وانعدام الفرص، ما يجعل المواطن اللبناني ضحيةً هو الآخر. 
يقدّم عابد فهد، بإقناع كبير، شخصية المرابي الجشع الذي يسيطر على الحيّ بأكمله، وهو المتورّط في أعمال التهريب والنصب والاحتيال، المستغلّ ظروف الفقراء الصعبة، فيمنحهم القروض بالفائدة العالية، ويرهن ممتلكاتهم الصغيرة، تمهيداً للاستيلاء عليها. ويُبدع الفنان اللبناني جورج خبّاز في تجسيد شخصية رجل لبناني عنصري متعصّبٍ معادٍ للسوريين تاريخياً، بسبب فقدانه والده في الثمانينيات، ولم يتوقّف عن البحث عنه ونبش ملفّ المفقودين، ما يعرّضه لمتاعب كثيرة من جهات متنفّذة مشبوهة. وتتألق كاريس بشّار في دور مريم، المرأة السورية المقهورة المطارَدة، لكن الصلبة المقاومة التي تنجح في الهرب، وتدخُل إلى لبنان بشكلٍ غير قانوني، بعد أن تدفع كل ما تملك من نقود لأحد المهرّبين، وتسعى للسفر إلى ألمانيا، هرباً من حياتها التي تزداد تعقيداً في الحيّ اللبناني الفقير.
المسلسل مشغولٌ بحرفيةٍ عاليةٍ تثير الإعجاب على مستوى الإخراج الذكي الذي اعتنى بأدقّ التفاصيل، ونقل المتلقّي إلى قلب الحدث، وورّطه في انفعالات متباينة المستوى بين الغضب والفرح والحزن والقهر. كذلك تميّز الحوار بالعمق والرهافة والإشكالية، لمقاربته الواقع من دون مواربة أو محاولات تجميل عبثية، كذلك أبدع فريق الممثلين المتمكّن الموهوب المحترف في تقديم الشخصيات بأسلوب فنيٍّ عالي المستوى. وحازت كاريس بشّار على وجه الخصوص إعجاب الجمهور وإشادته، لبراعتها في اعتناق الشخصية، وأثبتت حضورَها ممثلةً قديرةً في موازاة فنانين كبار، من وزن جورج خبّاز وعابد فهد. وتوافرت للمسلسل كل عناصر النجاح المطلوبة في أي عمل درامي، ما برّر هذه الجماهرية الكبيرة التي حقّقها، والجدل الكبير الذي أثاره في مواقع التواصل الاجتماعي لحساسية المواضيع السياسية والاجتماعية التي طرحها بجرأة كبيرة وموضوعية تُحسب للقائمين عليه. لم يخلُ العمل، رغم خشونته، من لحظات حبٍّ وتعاطف وضعف إنساني وهشاشة.
مسلسل "النار بالنار" عمل إبداعي كبير يستحق المتابعة، إذ ينتصر للحياة ولقيم الحرية والعدالة والحقّ والجمال، تحقيقاً لمهمّة الفن النبيلة في الارتقاء بوعي الشعوب.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.