عن ظاهرة مقاطعة سلع غربية
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
محلّات كانت تغصّ بالزبائن يمكن أن تراها الآن خاوية، تصفّر فيها الريح. مثل كنتاكي وماكدونالد وستاربكس، وكذلك "المول" التجاري كارفور، وغيرها من ماركات راجت ضمن اللائحة التجارية الداعمة لإسرائيل في عدوانها المروّع على قطاع غزّة. السبب المباشر، إذن، دعمهم العلني إسرائيل. انتشرت الصور بقوة الريح في وسائل التواصل، وخصوصا في "واتساب"، مع توصية بالمقاطعة. هكذا يحدث الأمر بصمت وفردية. ومع الوقت، نكتشف أن النتيجة ليست هيّنة، فقد أصبحت تظهر أرقام خسائر هذه الشركات الداعمة إهراق الدم الفلسطيني. لا يجد موظفون في تلك المحلات ما يفعلونه سوى الانتظار. لم يكونوا من قبل يجدون وقتا لتلبية طلبات الزبائن، بسبب كثرتها. أصبح هذا المشهد ذائعاً. قوائم طويلة من السلع (المحرّمة) أصبحت من المحفوظات غيباً في الذاكرة.
قبل ذلك، كان المقاطعون يستعينون بشاشات هواتفهم، رأيتُ مرّة في محل "نيستو" باكستانييْن يعاينان السلعة بتقريبها من أعينهما في تساؤلٍ وحديث خافت مفاده: هل هذه السلعة ضمن المحرّمات؟ وهما مستعدّان، على فقرهما الظاهر، أن يشتريا سلعة أخرى، وإنْ كانت أغلى، وغير مستعدّيْن طبعاً لطعن ضمائرهما بالاستجابة لإغراءات التخفيض التي تمارسها هذه الشركات في محاولة لاستمالة الزبائن.
تجري الأمور بصمت، فهذا أضعف الإيمان كما يرى أصحاب المقاطعة، التغير بالقلب. تجنّب شبهات المنتَج الملطّخ بالدم الفلسطيني، حيث ظهرت صور عديدة، وخصوصا لوجبة كنتاكي تقطر دما في الصورة. كانت السلعة الأوروبية تشكل سحراً وإغراءً لمستهلكيها، وميداناً للمباهاة والتفاخر الاجتماعي أيضا، ودعوة مفتوحة إلى المتعة، خصوصا في ما يتعلق بالوجبات السريعة المحضّرة بموجب خلطات سرّية مستوردة، يُحفظ بعضها في البنوك. ولكن نتيجة للهزة التي رافقت موقف عدة دول غربية من أحداث غزّة، وتبريراتهم اللامنطقية وتسويغاتهم القتل الوحشي اليومي، اهتزّت الصورة من أعماقها، إلى جانب منع بعضِها تظاهرات التضامن مع غزّة، ما جعل من قارّة الرفاه الليبرالي خانقة للحريات، أو بالأحرى كشفها على حقيقتها المخفيّة، وأسقط عنها قناع الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وأحيا في الضمير تاريخها الاستعماري الاستغلالي الأسود.
نبهت المقاطعات كذلك المخيلة الإنتاجية إلى المنتج المحلي المهجور، والذي يكون عادة أوفر صحةً وأقلّ حشوا، مثل البيتزا المحلية التي بدأت تنتشر عوض الخبزة السميكة لـ"بيتزا هت"، التي انضمت هي الأخرى إلى القائمة السوداء للممنوعات الشعبية. بدأت تنتشر، في القرى العُمانية مثلا، ماركات محلية مصنوعة في البيوت، لتُضاف إلى مخبوزات أخرى، كانت تصنع في البيوت، مثل خبز الرخال والجولة والعسل والشوب العُماني المعجون بالثوم. أضيفت البيتزا أيضاً إلى هذه القائمة، وأخذت طريقها في الانتشار بين الزبائن، محفوفة بالصعتر الجبلي.
يتبادر سؤال: هل يستفيد العرب، بالقدر نفسه، من اتفاقية التجارة العالمية (الجات)؟ مثلا، إذا ذهبت السلعة العُمانية إلى أميركا، هل سيشتريها المواطن الأميركي، حتما ستتوجّه يده بثقة إلى منتجه الأميركي. لذلك تعود سلعنا خائبة من هناك، بينما نحن نشتري كل ما ينتجون ونطلب المزيد. إذا كانت هذه الاتفاقيات التجارية التي تُلزم في بنودها الموقّعين عليها لا يستفيد منها سوى الجانب الغربي المنحاز إلى سلعته، بينما مصير سلعنا المحلية البوار، فإن مثل هذه المقاطعات ستُنعش حتما السلع المحلية في كل بلد عربي. لذلك من المهم جدا دعمها من الدول (على غرار الحالة السنغافورية، التي شقّت طريقها، في البداية، على تشجيع المنتج المحلي والتضييق أحيانا على استيراد ما سواه)، وما يحدث حالياً في مصر دليلٌ على ذلك، حيث تصل الأخبار إلينا عن سلع مصرية محلية، صارت بديلا للسلع الأميركية، وخصوصا في ما يتعلق بالمأكولات، لقد حلّت ماركة محلية محلّ تلك الماركة المستوردة. انقشع السحر وربما انقلب على الساحر. وإذا استمرت هذه المقاطعات على وتيرتها، فستشكّل ضغطا كبيرا على هذه الشركات، لتعيد النظر في مواقفها الشوفينية المستهترة بأوجاع الفلسطينيين.
ويتبادر إلى الذهن سؤال آخر، ويتعلق بأمر الخديعة التي يقع فيها المستهلك العربي، وهو ما نراه من تخفيضات لهذه السلع، يصل أحيانا إلى أقلّ من النصف. هل كنّا من قبل أمام سلع لم تكن مرتفعة الأثمان في أصلها، لكنّ الطلب عليها هو ما رفع أثمانها؟ هذا ما يبدو عليه الأمر في حدوده الدنيا... تدفّق نهر مقاطعة السلع الأميركية إذاً، فما الذي سيوقفه؟
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية