عن حراك السويداء
الاحتجاجات الشعبية في جبل العرب وساحة الكرامة في مدينة السويداء مستمرّة. يصرّ أهل الجبل، دائماً، على الانتماء إلى سورية، ويرى بعضُهم أن انتفاضتهم جاءت في سياق الثورة السورية التي انطلقت في مارس/ آذار 2011، وحينما تسرّبت أصوات ناشزة، تتهمهم بالسعي للانفصال عن سورية، طالبوا أصحابَها بالعودة مائة سنة إلى الوراء، ليروا كيف رفض أهل الجبل الوجود الفرنسي في سورية، وتخلّوا، من تلقاء أنفسهم، عن الاستقلالية التي منحتهم إياها حكومةُ الانتداب في مايو/ أيار 1921، وأن الثورة السورية الكبرى، التي بلغت أوجها سنة 1925، انطلقت من قلب جبلهم، بقيادة سلطان باشا الأطرش.
وعلى الرغم من تلك الاعتبارات؛ لا بد من ملاحظة اختلافاتٍ جوهريةٍ بين ثورتهم وثورة المناطق الشمالية. أولها؛ مشاركة المرأة. وثانيها؛ المحافظة على السلمية. وثالثها؛ وقوف المثقفين من الطبقة الوسطى في مقدّمة الحراك. لننظر إلى هذه الفروق بشيء من التفصيل. أنا، محسوبكم، أقول، عن تجربة واطّلاع، إن مشاركة المرأة في المناطق الشمالية كانت ضعيفة، فكان عدد المتظاهرين، في بعض الحالات، عشرات الألوف، من دون أن يكون فيه امرأة واحدة! وكنا نشاهد، في كل اعتصام، بضع نساء محجّبات، واقفات في مكان قصي من الساحة، لا تُلقى عليهم أية أضواء. وبعد سنة 2015، حينما أصبح شمال سورية محكوماً من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، حلّ النقاب مكان الحجاب، والمانطو الطويل مكان الثوب أو التنّورة. وأما نساء الجبل، فقد وقفن مع الرجال جنباً إلى جنب، وردْدن الأهازيج الشعبية، وشاركْن في الهتافات، والدبكات، والرقصات، وتقديم الضيافة للمتظاهرين. وللتذكير، تعدّد الزوجات غير متاح في عقيدة الدروز، والرجل يعامل زوجته باحترام. وربما كان المنغص الوحيد في علاقاتهم الأسرية ما كان يحصل بسبب طغيان الذكورية التقليدية، ووقوع ما اصطلح عليه باسم "جرائم الشرف". ولكن، من حسن الحظ، دفع الوعيُ المتقدّم لفيفاً من أبناء الطبقة الوسطى إلى التظاهر، في سنة 1922، تنديداً بتلك الجرائم، وحمل الرجال المتظاهرون لافتاتٍ كتبت عليها عبارة موجّهة إلى النساء اللواتي طاولتهن جرائم الشرف: دماؤكن في رقبتنا.
المهم؛ على الرغم من الوحشية الرهيبة التي أظهرها نظامُ الأسد لمواجهة الثائرين في مختلف المحافظات السورية، إلا أنه راح يعدّ للعشرة، من دون الإقدام على اقتحام الجبل، فلعلّه يعرف، أو يتذكّر، ما حصل في عصور الانقلابات العسكرية، وكيف كان العدوان عليهم يكلف زعيم الانقلاب الكثير، فضلاً عن أن أهل الجبل لم يتسلّحوا، ومن ثم ليس في مقدور النظام اتهامهم بـ"الإرهاب الديني المسلح"، وكان قد عجز، في السابق، عن إجبارهم على إرسال أبنائهم إلى الخدمة العسكرية، لأن حجتهم كانت قوية، أن دم السوري على السوري حرام، في إشارة واضحة إلى أن الجيش كان يقتل المتظاهرين.
أما البند الثالث الذي يجعل انتفاضتهم أكثر ثباتاً، وإيلاماً لنظام الأسد، فهو حضور المثقفين، وذكاء اللافتات المرفوعة التي تذكّرنا ببعض اللافتات التي رفعت في كفرنبل في الأيام الأولى للثورة، كالمطالبة بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وإطلاق سراح شخصيات وطنية في المعتقلات، مثل عبد العزيز الخير، وزكي كورديللو، إلى توجيه تحيّاتٍ إلى شخصياتٍ سورية كان لها تأثير جيد في الحياة العامة. والجدير بالذكر أن شيوخ العقل الذين يتصدّرون المشهد، مثل الشيخ حكمت الهجري، يمثلون زعامة شعبية، وليست دينية. ولذلك تراهم يردّدون الشعار الذي دُوِّنَ في رأس بيان ثورة 1925، وأعده مناضلون وطنيون سوريون آنذاك، بقيادة سلطان باشا: الدين لله والوطن للجميع. وهذا يقع على النقيض من ثورتنا في الشمال، وأذكُر أننا حاولنا كثيراً الحفاظ على بوصلة الثورة الوطنية. ولكن الذين تسلحوا تمكّنوا من إبعادنا، ولا أنسى ما قاله لي أحدُهم قبل أن أغادر، أواخر سنة 2012: الثورة بدها ثوّار، ما بدها أساتذة!