عن التدخل الدولي في لبنان
يعلم الجميع في لبنان أننا على عتبة نهاية وبداية. لا أحد يريد الاعتراف بذلك. كل المؤشّرات تدلّ على نهاية حقبة وبداية أخرى، وأننا في مرحلة انتقالية ترتسم فيها ملامح الرحلة المستقبلية في لبنان. لا أحد يريد الإقرار بأن الأزمة تجاوزت مبدأ تشكيل الحكومة، وتخطت مسألة تطبيق كل بنود اتفاق الطائف الموقّع عام 1989، والذي أنهى الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، بعدما طُبّق انتقائياً طيلة العقود الثلاثة الماضية. الجميع يعلم، ولكنه يريد غضّ النظر عن ذلك، أن لا تسوية لبنانية ـ لبنانية ستولد من دون أثمانٍ محدّدة، وهي أكبر من مجرّد استقالة أو تنحٍّ. وعلى الرغم من علم الداخل بذلك، إلا أنه يرفض القيام بخطوة جريئة، تُعيد رسم خريطة السياسة اللبنانية، بما يسمح بحماية شبكة الأمان الاجتماعية للناس. وسيؤدّي ذلك، بطبيعة الحال، إلى اتّساع مبدأ التدخل الدولي في لبنان.
هنا يُمكن طرح سؤالين: ما هي القيمة المُضافة التي يُمكن أن يقدمها لبنان للعالم، بمساحته الصغيرة وغياب الموارد الأولية، عدا النفط والغاز في البحر، اللذين لا يُمكن التأكد من وجودهما سوى بعمليات تنقيب؟ ما هي حدود هذا التدخل وكيف سيتصرّف الداخل بموجبه؟
في السؤال الأول، علينا العودة إلى ما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الماضي. في ذلك الحين، كان الخلاف على التنقيب في شرق المتوسط كبيراً بين تركيا واليونان، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حليف أثينا، للحضور إلى بيروت "مبدياً تعاطفه" مع الشعب اللبناني. لكنه عملياً، قام "بإنزال" خلف الخطوط التركية، للضغط على أنقرة. لاحقاً، اتفق اليونانيون والأتراك على تبريد الجبهة، فهدّأ الفرنسيون مسعاهم في لبنان، مكتفين بتهديد المسؤولين اللبنانيين بفرض العقوبات، في حال لم يشكّلوا حكومة. لذلك، كانت "القيمة المُضافة" هنا دور لبنان الجغرافي في معركة نفطية بين تركيا واليونان. هنا، في وسعنا التفكير مجدّداً بموضوع التنقيب عن النفط والغاز، بما يسمح للخارج بالتعاطي مع لبنان، انطلاقاً من القيمة المادية التي يُمكن أن يشكّلها. مع العلم أنه في حال قرّر نصف الموجودين في لبنان، من مواطنين ومقيمين، أي نحو 3.5 ملايين شخص، اللجوء إلى أوروبا، حينها سيُصبح التدخل الدولي أمراً واقعاً.
في السؤال الثاني، تبقى حدود هذا التدخل متحرّكة وفقاً لحاجات الدول المتدخلة. في الأساس، هناك الولايات المتحدة التي ترابط في مواقع عدة في لبنان، وتعتبر أن نفوذها لا يُمكن المساس به. في المقابل، الفراغ الناجم عن تحوّل حزب الله إلى مجرد لاعبٍ مع آخرين على الساحة اللبنانية، بدلاً من كونه راعياً خَلَفَ الراعي السوري بعد عام 2005، سمح بتطلّع أوروبي وروسي إلى لبنان. وهنا يعتبر الأوروبيون أن العقوبات المرتقبة على مسؤولين لبنانيين، بسبب إخفاقهم في تشكيل الحكومة، معطوفاً على المساعدات الإنسانية والطبية التي قدّموها وسيقدّمونها، سيسمح لهم في ملء هذه الفراغ. لكن الروس الرابضين في سورية، كانوا واضحين، في بيان أخير لهم، يوم الثلاثاء الماضي، بالتحذير من فرض العقوبات على المسؤولين اللبنانيين. وبدا لافتاً أن بيانهم يشبه البيانات التي يصدرونها للتنديد بعقوباتٍ أوروبيةٍ على دولة سوفييتية سابقة، مثل بيلاروسيا. أوحى الروس بأن لبنان "دولة سوفييتية سابقة"، ويتصرّفون معه على هذا الأساس. الآن، ما هي قدرة الداخل فعلياً في ظلّ هذا الوضع، سواء بالترحيب بهذا التدخل أو في السعي لمنعه؟
للوهلة الأولى، سيتحرّك بعضهم للمطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال، لكنه لن يقدّم مقابلاً للبنانيين، ينشلهم من الواقع الاجتماعي المتردّي، والبطن الجائع أكبر من أي قضية. في المقابل، سيرحّب آخرون بهذا التدخل، لكنه لن يحقق "أحلامهم" في قيادة البلاد كما يشاء. هل هذا قدر؟ لا، بل واقع فرضته أنانية الداخل وانغماسهم في سرقة الناس أكثر من 30 عاماً.