عن احتمالات اتفاق إيران النووي ومبالغاته
بعد مرور عام على انطلاق المفاوضات الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني، لا يبدو واضحا ما إذا كان ما زال ممكنا الوصول إلى اتفاق. فبعد ثماني جولات، دخلت المفاوضات طور الجمود منذ 11 مارس/ آذار الماضي، بسبب إصرار إيران على رفع مؤسّسة الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية (وأيضاً اسم المرشد من قائمة العقوبات)، وهو أمر تبدو كلفته السياسية عاليةً على إدارة الرئيس بايدن التي تواجه تحدّيا انتخابيا كبيرا في الخريف المقبل، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، على الرغم من أن إنتاج إيران الحالي من النفط يصل تقريبا إلى مستويات ما قبل إعادة فرض العقوبات نتيجة غضّ طرفٍ أميركي، تزايد خصوصا بعد اندلاع حرب أوكرانيا. مع ذلك، وعلى الرغم من كل الصعوبات، تبدو فرص العودة إلى الاتفاق النووي كبيرة، إذ تحتاج كل من واشنطن وطهران لإحياء الاتفاق بالدرجة نفسها، فإدارة الرئيس بايدن لا تريد التورّط في حربٍ جديدة في الشرق الأوسط، وهو أمرٌ محتمل، في حال واصلت إيران تطوير برنامجها، وصولا إلى إنتاج سلاح نووي. يحتاج الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى اتفاق يمكّنه من تنفيذ وعوده الاقتصادية وتكريس حكمه، مع بروزه خليفةً محتملا للمرشد، وهو يسعى من ثمّ إلى إنعاش الاقتصاد الذي خسر نصف حجمه بفعل الضربة الثلاثية المتمثلة بعودة العقوبات الأميركية وانهيار أسعار النفط وتفشّي وباء كورونا (انخفض ناتج إيران القومي من 430 مليارا عام 2018 إلى نحو 190 مليارا عام 2020).
يعدّ المحيط الإقليمي نفسه أيضا، وكأن العودة إلى الاتفاق النووي حاصلةٌ لا ريب، ويشهد بناء عليه عمليات إعادة اصطفافٍ واسعة يتوقع أن تتعاظم في المرحلة المقبلة، مع تداعياتٍ مهمةٍ على مجموعة من الملفات والأزمات، تبدأ بسورية ولا تنتهي باليمن ولبنان والعراق. وفيما يبدو تركيز واشنطن منصبا كليًا في العلاقة مع إيران على قضية النووي، تبدو أكثر دول المنطقة منشغلةً بنفوذ إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، وتنظر إلى احتمال العودة إلى الاتفاق النووي باعتباره سيناريو كارثيا (Doomsday Scenario)، نظرا إلى ما ستحصل عليه إيران من عوائد مالية تساعدها في تطوير برامجها الصاروخية وزيادة الإنفاق على أذرعها التي باتت تنتشر في أنحاء الإقليم.
والواقع أن هذه الحسابات تنطوي على مبالغات كبيرة، وتتجاهل التغيرات التي حصلت في المنطقة بين عام 2015 (تاريخ التوصل إلى الاتفاق الأصلي) وعام 2022، فخلال السنوات السبع الماضية جرت مياه كثيرة في أقنية دول المنطقة، وتغيّر معها وضع إيران الاستراتيجي، فإلى الشرق عادت حركة طالبان إلى حكم أفغانستان، وتمكّنت، بعد انسحاب الولايات المتحدة، من القضاء على أكثر خصومها، ومن بينهم حلفاء طهران، وبات الخمسة ملايين لاجئ أفغاني المقيمون على أراضيها قنبلةً موقوتة في قلب إيران. وفي الشمال، يثير صعود حليف تركيا، أذربيجان، بعد انتصارها على أرمينيا، حليف إيران، في حرب إقليم ناغورنو كاراباخ أخيرا، قلقا كبيرا في طهران. أما غربا، فقد باتت تركيا، بتدخلاتها العسكرية الممتدة من القوقاز إلى ليبيا، مرورا بالعراق وسورية، قطبا إقليميا كبيرا. وعلى الرغم من إطاحة حكومة عمران خان في باكستان، فالأرجح أن تستمر العلاقات العسكرية بين باكستان وأذربيجان وتركيا في التطوّر، وهو أمر يخيف إيران. الأسوأ من ذلك أنه، وبعد توقيع اتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين، باتت إسرائيل تقيم على حدود إيران الجنوبية، بعدما اقتصر وجودها سنوات على حدودها الشمالية في أذربيجان. وعلى الرغم من استفادة إيران من ضعف قبضة روسيا المحتمل في سورية، بعد تورّطها (روسيا) في أوكرانيا، ومن غيابها عن أسواق الطاقة (إن حصل)، إلا أنها تتضرّر على المستوى الاستراتيجي، نظرا إلى اعتماد إيران على دعم موسكو في مجموعة من القضايا والملفات. وفي ظل التطور الكبير في العلاقات الخليجية الصينية، تخشى إيران من إمكانية تجاوب الصين مع الضغوط الخليجية للحدّ من علاقتها بإيران، علمًا أن حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الخليج بلغ عام 2019 نحو عشرة أضعاف حجمه بين الصين وإيران (180 مليار دولار في مقابل 20 مليار دولار). وهذا يعني أن تأثير العودة إلى الاتفاق النووي على وضع إيران الاستراتيجي لن يكون بالحجم الذي يروّج، إلا إذا ترافق بتغيراتٍ عميقةٍ في العلاقة مع واشنطن.