عن إنتاج العزلة والاضطراب

26 نوفمبر 2022

(Getty)

+ الخط -

من أكبر المسبّبات للاضطراب النفسي في عصرنا الحالي العزلة التي جرى فرضها بدأبٍ شديد على البشر، عبر اختزال حياتهم لتصبح مجرّد حياة افتراضية تعاش ضمن ما يطلق عليها اسم وسائل التواصل الاجتماعي، وهو بالمناسبة اسم يتناقض تماما مع الغرض من اختراعها؛ فطفرة وسائل التواصل الاجتماعي والتطورات المذهلة التي طرأت عليها خلال العقدين، الماضي والحالي، تعمل على تكريس فردانية الفرد وعزلته وقوقعته، ليصبح عالمه كما لو أنه يحدُث ضمن شاشة لم يعد بالإمكان التخلي عنها بعد أن أصبحت تفاصيل يوميات حياته مرتبطةً بها، سواء أكانت شاشة الهاتف المحمول أم شاشة جهاز الكومبيوتر أم ما يعادلهما. وليكتمل الإجهاز على ما تبقى من حياة واقعية حقيقية جاءت عزلة كوفيد – 19، وما فرضه الخوف من انتشار العدوى، وما سبّبته من أزمات اقتصادية، كان أحد حلولها تسريح ملايين العمال والموظفين الصغار، أو محاولات التقنين عبر جعل معظم الأعمال تتم عبر الشبكة (أونلاين)، ما يجعل من حاجة الخروج من المنزل أمرا غير مهم إلا للضرورات القصوى.

ولعلّ أكثر ما يؤكّد اضطراباتنا النفسية الحالية النتائج التي تخلُص إليها النقاشات على وسائل التواصل، خصوصا النقاشات المتعلقة بقضايا إشكالية وحسّاسة، أو تلك المتعلقة بالقضايا السياسية (رغم أن أي قضية في وقتنا الحالي هي ذات منشأ سياسي أصلا)، فما أن يكتب أحدنا رأيا على مدوّنة أو صفحة شخصية له على "فيسبوك" أو أي موقع مشابه، حتى يواجَه بكم كبير من التعليقات (موافقة ومعارضة)، وهذا طبيعي ومقبول، لكن غير الطبيعي هو التطرّف في التوافق أو التعارض، التطرّف الذي يبدو تهافتا كاملا في حال التوافق، ويبدو عداءً شديدا في حال التعارض، بحيث يضيع الهدف من طرح الفكرة أساسا، وينتُج منه إما مريدون بلا أفكار لصاحب الفكرة، أو أعداء وخصوم تحدُث معهم قطيعة كاملة بمجرّد ضغطة واحدة على مربع الحظر، فينتهي وجودهم، تماما كما لو أنك أطلقت عليهم طلقة مسدس قاتلة. ذلك أن الخلاف والاختلاف بالرأي لم يعد مع وسائل التواصل فرصة للنقاش والاستفادة والغنى، بل هو مجرّد تربّص وانتظار لكيل الشتائم والاتهامات المتبادلة، ما يجعل من البلوك/ الطلقة الحل الوحيد للنجاة من خطر التشويه المتبادل. البلوك يعني أن وجودهم لك انتهى مثل وجودك لهم، (وعن تجربة حقيقية، يمكنني القول إنني نسيت تماما وجود أشخاص حظرتهم على "فيسبوك" وكانوا أصدقاء واقعيين). هكذا تصبح الحياة خارج هذا العالم الافتراضي كأنها غير موجودة، ويصبح الاكتفاء بالمدائح والاتفاق بالرأي هو ما يجلب السعادة لذواتنا التي تتضخّم يوما وراء يوم، ونزداد مع تضخّمها وحدةً وعزلة.

أعترف بأنني أشعر بالحنين إلى الأيام التي كنا نجلس فيها في المقهى، نتحاور حول قضايا ساخنة وإشكالية، نعبّر عن رأينا بها وحولها من دون أي خوف من الفهم الخاطئ، ومن دون أي توجّس من التربّص أو من إساءة استخدام الرأي المخالف، والأهم من دون أي تفكير مسبق بإمكانية القطيعة مع صديق أو زميل لاختلافكما بالرأي في قضيةٍ ما، مهما كان الاختلاف كبيرا أو الخلاف حادّا وصاخبا ومرتفع الصوت، ذلك أن اللقاء في المكان نفسه في اليوم الثاني سوف يمحو الصخب الذي حدث بالأمس وكأن شيئا لم يكن ولم يحدُث، ما لم تكن الإساءات المتبادلة بالغة، وهو نادرا ما كان يحدُث في النقاشات، مهما كان موضوع النقاش شائكا وإشكاليا وحادّا.

لم تعد هذه الحميمية في الخلاف متوفرة مع وسائل التواصل، بعد استبدالها بسوء الظن المسبق. ولم يعد ممكنا التعويل على المودّة الصافية في مسح آثار الاختلاف بالرأي الحالي والبدء غدا من جديد، ذلك أن الفردانية بلغت فينا مبالغ خطرة، بتنا معها نعتقد أن الاختلاف معنا في أي موضوع هو استهداف شخصي، هكذا سيبدو رأيي للمختلف معي، وهكذا سيبدو لي رأي المختلف عني.

أين الاجتماعي في كل هدا السخط والغضب والعداء والتجاهل والإعدام المعنوي الذي نمارسه جميعا في اختلافاتنا بشأن القضايا الحساسة، عبر هذه الوسائط والوسائل التي أصبحت منابر وحيدة متاحة للجميع؟ أليس هذا كله ضد مفهوم التواصل والاجتماع ومعزّزا للعزلة وللعجز عن النقاش وتبادل الآراء. وتاليا عن التراكم المعرفي والغنى والتنوّع؟ أليس في هذا ما يسبّب اضطرابا لنا كشخصيات فردية وكمجتمعات مؤلفة من مجموعات من الأفراد؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.