عندما يتشاور وزراء الخارجية العرب
نخطئ، نحن الصحافيين والمعلقين، عندما نستسهل تسمية جامعة الدول العربية بأنها الجامعة العربية، فالفرق بينهما جوهري. تصلح الأخيرة لفكرةٍ أو قيمةٍ يجتمع عليها العرب، أو تجمَع العرب إذا ما تآلفوا حولها، غير أن التسمية الصحّ تلك تنطق بما هي عليه جامعة الدول العربية، مؤسّسةً كيانيةً تجمع دولا أعضاء بصفتهم دولا. ربما، جاز القول إن هذه الجامعة كانت، حتى شيءٍ من ثمانينيات القرن الماضي، (تعييناً قبيل غزو الكويت صيف 1990)، جامعةً عربيةً إلى حدّ ما. تقيم في أرشيف هذه المنظمة العتيدة (تأسّست في 1945) قراراتٌ غير قليلة، كان من عظائم الأمور أن يخرُج عنها أي نظام حكمٍ عربي، أقلّه علنا، وفي البال ما عوقب عليه نظام أنور السادات لمّا أقدم على السلام إياه مع إسرائيل، في 1979. أما نشر راداراتٍ إسرائيليةٍ في الإمارات والبحرين، وتنظيم مناوراتٍ عسكريةٍ مغربيةٍ إسرائيلية، وتنسيقٍ مخابراتي بين الموساد والأجهزة السودانية، فأنباءٌ روتينيةٌ كهذه، ومثلها كثير، لا تستطيع الجامعة المتحدّث عنها أن تعدّها من عظائم الأمور. وإذا اكترثنا باجتماعات وزراء الإعلام العرب، أو نظرائهم في غير شأن، ربما نلقى أدبياتٍ وقراراتٍ لها بعض القيمة من حيث ما كان يسمّى "العمل العربي المشترك"، وسنُصادف التزاما عامّا بها، في حقبٍ مضت، غير أن من قلة العقل أن يُلاحق واحدُنا أرطال البيانات الختامية التي توالى صدورُها عن اجتماعاتٍ وزاريةٍ بلا عدد، ليس فقط من فرط الإنشاء الرتيب فيها، وإنما أيضا للقناعة بأن هذه اللقاءات الروتينية صارت وسيلةً لتنفيعات موظفين رفيعين ومياوماتهم في أسفارهم. وإذ شاع أنها وحدَها قراراتُ اجتماعات وزراء الداخلية العرب التي لا تتحلّل أيٌّ من الدول العربية منها، فقد يكون هذا قولا صائبا في طوْر مضى، ثم لم يعد كذلك.
مناسبة الكلام المتعجّل أعلاه أن وزراء الخارجية العرب عقدوا اجتماعا "تشاوريا" في فندق الحبتور في بلدة سن الفيل في لبنان، السبت الماضي، حرص أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، على الإيضاح (لمن بالضبط؟) على القول إن الاجتماع التشاوري لا تصدُر عنه وثائق أو قراراتٌ مكتوبة، و"إنما نقاشٌ أكثر انفتاحا وتعمّقا من النقاشات المكتوبة على الورق". وكان الرجل في غنىً عن هذه "الشفافية"، فليس من فائض وقتٍ لدى المواطن العربي ليلتفت إلى شأنٍ كهذا. وإذا صحّ أن في باله ثمّة معنى وقيمة لأي "قراراتٍ مكتوبة" يوقّع عليها السادة وزراء الخارجية العرب، فيما لو لم يكن لقاؤهم هذا ليس تشاوريا، فإن هذه نكتة. أما قوله (أبو الغيط) إن رسالة دعمٍ عربيةٍ مع لبنان، في غضون ظروفه الاقتصادية الصعبة، ينطوي عليها عقد الاجتماع فيه، فهذا كلامٌ ساكتٌ، بالتعبير السوداني، أو كلامٌ لا يقول شيئا، بتعبير الراحل جورج طرابيشي، لمّا كنا معه نسمع كلاما فارغا في ندوةٍ قبل سنوات بعيدة، أو هو، بتعبير صاحب هذه السطور، كلامٌ دبلوماسي له بعض النفع المعنوي العابر، ثم لا يفضي إلى ما هو جدّي. وعندما يستعرض الأمين العام الموضوعات التي "تشاور" بشأنها وزراء الخارجية العرب ومن ناب عن بعضهم، فإن بعض دهشةٍ قد يغشانا، إذ يعصى على التصوّر أن ساعاتٍ في بعض نهار أمكنهم فيها أن يُحيطوا بها كلها، أوكرانيا، سورية، اليمن، .. إلخ. وقولة أبو الغيط إنهم بحثوا "إن كنّا نستطيع، كدولٍ عربيةٍ، أن نقترب من القضية الفلسطينية بأسلوبٍ جديد" تحتاج إلى فكفكة أحجياتها وألغازها. وفي الوسع أن يسأل مستمعٌ لما استرسل فيه الأمين العام عن "المقاربة" التي طاف فيها الوزراء في شأن الصومال، وقد قال إنه "جرت مناقشة الموضوع الصومالي، حيث يقترب الصومال من مجاعةٍ مخيفةٍ، نتيجة القحط وقلة الأمطار".
من دون تطويل كلام، يتداعى النظام الرسمي العربي في مجموعه الذي تمثله جامعة الدول العربية. رهانات الدولة العربية الراهنة مفرطةٌ في القُطرية، ليس ثمّة حاجةٌ لورقة التوت العتيقة التي كان من مسمّياتها "التضامن العربي" و"العمل العربي المشترك". يتذكّر بعضنا أن وساطات عربية كانت تنشط عندما تخرب علاقة هذه الدولة بتلك، وها هي الجزائر لا تسمح بشيءٍ من هذا في ما يخصّ العلاقات التي قطعتها مع المغرب، وهي التي ستستضيف القمة العربية المقبلة (ما الداعي لها؟) .. وهذا تفصيلٌ عارضٌ في خريطة تفاصيل وفيرةٍ تجعل اجتماع وزراء الخارجية العرب في فندق الحبتور في سن الفيل نافلا، تشاوريا أو غير تشاوري.