عندما لم يعد نفط الخليج سلاحاً استراتيجياً
تسأل كبيرة المحرّرين ورئيسة قسم الاقتصاد والحوكمة في "بلومبيرغ"، ستيفاني فلاندرز، وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، ما إذا كانت بلاده تفكّر في استخدام الأدوات الاقتصادية، مثل أسعار النفط، لتحقيق وقف إطلاق النار في غزّة؟ فيردّ، مع ضحكٍ مسموع وبعض التردّد، إن هذه ليست مهمته اليوم، ثم يضيف "أستطيع أن أقول لك إن هذا ليس مطروحاً على الطاولة اليوم. تحاول المملكة العربية السعودية إيجاد السلام من خلال النقاش السلمي". ... كان هذا في الثامن من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) فيما تقصف إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة ودول أوروبية، خصوصاً المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، السكان المدنيين في قطاع غزّة بشكل عشوائي، رداً على الهجوم الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ضد مدنيين وجنود إسرائيليين في الأراضي المحتلة المحيطة بالقطاع المحاصر. ومن الخسائر الفادحة أكثر من 15 ألف شهيد فلسطيني من المدنيين، بينهم نحو خمسة آلاف طفل، وعجز المجتمع الدولي عن وقف المجازر الإسرائيلية، دفع الوضع الكارثي في قطاع غزّة إلى صدارة الأخبار عالمياً وفي المنتديات الدولية، مثل منتدى بلومبيرغ للاقتصاد الجديد في سنغافورة، أين دار الحوار المذكور بشأن سلاح النفط.
قبل 50 عاماً
بحلول عام 1973، كانت منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك)، خلال 13 عاماً فقط من وجودها، قد امتلكت وسيطرت على معظم إنتاج وتجارة النفط العالمية. وكانت أغلب صلاحياتها في تحديد الإنتاج والسعر في أيدي أعضائها العرب، حيث أصبحت دول الخليج بمثابة المركز العالمي للنفط والغاز في ذلك الوقت. في 6 أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، في خضم الحرب الباردة، شنت مصر بقيادة أنور السادات وسورية بقيادة حافظ الأسد هجومًا ضد إسرائيل، لاستعادة بعض الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني خلال حرب يونيو 1967 (سيناء ومرتفعات الجولان). ثم رداً على قرار الرئيس الأميركي نيكسون بدعم إسرائيل خلال حربها ضد الفلسطينيين والعرب، فرض أعضاء "أوبك" العرب، بما في ذلك العربية السعودية بقيادة الملك فيصل، حظراً على صادرات النفط الخام إلى الولايات المتحدة وحلفائها. وفي اجتماع عقد في الكويت في 17 الشهر نفسه، قرّر أعضاء "أوبك" العرب منع الصادرات إلى الدول الغربية، واتفقوا على خفض إنتاج النفط بنسبة 5% شهريا حتى انسحاب الإسرائيليين من الأراضي العربية المحتلة. وتضاعف سعر برميل النفط أربع مرّات. وكانت هذه هي الصدمة النفطية الأولى التي أدّت إلى خسائر فادحة في الاقتصادات الغربية. وفي الولايات المتحدة، كان لارتفاع أسعار واردات النفط آثار سلبية على الاقتصاد العام، بما في ذلك انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 10 إلى 20 مليار دولار، وفقدان نصف مليون شخص لوظائفهم في ستة أشهر فقط، وفقا لوزارة الخزانة الأميركية. وذكرت الوزارة نفسها أيضًا أن الحظر الذي فرضته "أوبك" أدّى إلى تضخّم فاتورة واردات النفط الأميركية، وبالتالي، تآكل ميزان المدفوعات بشكل كبير. أما في فرنسا، بينما كانت 10% من عائدات التصدير في 1970 كافية لسداد فاتورة النفط، كانت هناك حاجة إلى 24% في عام 1974. ورغم رفع الحظر الذي فرضته منظمة أوبك في مارس/ آذار 1974، فإنه خلّف خسائر وأضراراً اقتصادية في الولايات المتحدة، وعلى الصعيد العالمي.
في 2019، تدفّق نحو 45% من إجمالي صادرات النفط العالمية إلى آسيا، وكان أكثر من نصفها متجهاً إلى الصين وحدها
تختلف حرب أكتوبر 1973 عن حرب غزّة 2023. في الأولى، جيشان نظاميان في مواجهة جيش محتل، مع حلفاء أقوياء من كل جانب. فيما عدم التكافؤ سمة الثانية، حيث يواجه واحدٌ من أقوى الجيوش وأفضلها تجهيزاً مجموعة مقاومة مسلحة من بضعة آلاف من المقاتلين. ... في الصراع الأول، حظي معسكر الدول العربية بدعم الدول العربية النفطية. وفي الحرب الدائرة حاليا، تُرِك السكّان المدنيون في غزّة، الذين كان عددهم 2.3 مليون نسمة قبل بداية الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لحالهم، في مواجهة القصف العشوائي المحموم ضد المناطق السكنية والمساجد والكنائس والمستشفيات ومدارس الأمم المتحدة.
تغير العالم في الخمسين سنة التي تفصل هاتين الحربين: حروب وهدنات، اعتداءات وانسحابات، معاهدات سلام، اتفاقيات تطبيع، عقوبات اقتصادية، تراجع عدّة قوى عالمية وصعود قوى أخرى. في هذه العقود الخمسة، تغيّر الخليج أيضا، حتى إنّ من عرفوا صحاريه وقراه في الماضي لن يتعرّفوا اليوم إلى مدنه الضخمة والشركات العملاقة فيه. ... ما هي هذه التحولات؟ لماذا تمتنع دول الخليج عن استخدام محروقاتها للدفاع عن عرب غزّة ضد المجازر الصهيونية المتواصلة؟
محور الشرق - الشرق الجديد في سوق النفط
حدث التحوّل الأول على مستوى سوق النفط نفسها، كما يوضح آدم هنيّة في مساهمته في الكتاب الجماعي "تحدّي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية" (دار صفصافة، القاهرة، 2024 ). ويغطي السلم الزمني الذي رسمه الباحث تطوّر النفط منذ بداياته أواخر القرن التاسع عشر، ولكن ثلاث مراحل رئيسية تتبيّن من تحليله. تتمثل الأولى في مواجهة التأميم خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، والتي أتاحت لحكومات الخليج السيطرة المباشرة على الإنتاج، حيث تولّت شركات النفط الوطنية، مثل أرامكو السعودية، وشركة بترول أبوظبي الوطنية، ومؤسّسة البترول الكويتية عمليات التنقيب واستخراج إمدادات النفط في الخليج وتصديرها. وبدأت المرحلة الحاسمة الثانية في أواخر التسعينيات، مع انفتاح الصين على الاقتصاد العالمي وتموقعها في مركز التصنيع العالمي. وشهدت المرحلة الثالثة، والتي بدأت في 2010 والمتواصلة، تعزيز الصين مركزها بوصفها "ورشة العالم". ففي 2019، تدفق نحو 45% من إجمالي صادرات النفط العالمية إلى آسيا، وكان أكثر من نصفها متجهاً إلى الصين وحدها. وكتب هنيّة: "معظم إمدادات النفط هذه أتت من الشرق الأوسط، وخاصة دول الخليج والعراق التي صارت توفر مجتمعة قرابة نصف واردات الصين النفطية بحلول عام 2020 (مرتفعةً من قرابة الثلث في 2001). ومرّة أخرى، أصبح هذا الطلب على نفط الشرق الأوسط اتجاهاً في آسيا كلها، وحالياً تذهب نحو 70% من كل صادرات النفط الخام من الشرق الأوسط (القادمة من الخليج أساساً) إلى آسيا".
ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من النفط الخام من السعودية من 6.3% إلى 8.8% من قيمة التبادل بين الربع الثاني من عام 2022 والربع الثاني من عام 2023
وفي الأثناء، أصبحت الولايات المتحدة، التي اهتزّت خلال أزمة النفط عام 1973 أكبر منتج للنفط في العالم. وكانت ذكرى حقول تكساس التي عجزت عن تعويض الفارق قبل 50 عاماً مريرة إلى حدّ أن الأميركيين بحثوا باجتهاد عن مصادر نفط جديدة، في خليج المكسيك، وبحر الشمال، وفي ألاسكا. كما فعلت واشنطن كل ما في وسعها لإضعاف قبضة "أوبك" على النفط، من خلال تقويض اقتصادات بعض أبرز أعضائها عن طريق الحروب والعقوبات، كما حدث في العراق وإيران وفنزويلا وليبيا. وفقًا لتقرير حديث صادر عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية، "انخفضت النسبة المئوية لإجمالي واردات الولايات المتحدة من النفط الخام من دول أوبك بشكل عام منذ عام 1977". وفي عام 2022، لم توفّر السعودية، وهي أكبر مصدّر للنفط في منظمة أوبك إلى الولايات المتحدة، إلا 7% من إجمالي الواردات الأميركية من النفط. في حين أمّنت كندا المجاورة حوالى 52% من إجمالي الاحتياجات النفطية للاقتصاد الأميركي.
وعلى الرغم من أن سلاح النفط قد يكون غير فعّال ضد واشنطن، إلا أنه يمكن أن يثني حكومات أوروبية عديدة عن دعمها غير المشروط الجرائم الإسرائيلية في غزّة والضفة الغربية. إذ يواجه الاتحاد الأوروبي نقصا كبيرا في الطاقة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، وحظر الواردات من النفط الخام والغاز الروسيين. ووفقا لأرقام مكتب الإحصاءات الأوروبي (يوروستات)، ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من النفط الخام من السعودية من 6.3% إلى 8.8% من قيمة التبادل بين الربع الثاني من عام 2022 والربع الثاني من عام 2023. وفي الفترة نفسها، ومع اختفاء حصة روسيا من الغاز المستورد، ارتفعت حصة الجزائر من 7.2% إلى 16.5% من قيمة التبادل.
وتعد كل من السعودية والجزائر عضوين عربيين رئيسيين في منظمة أوبك، وكان من الممكن أن يحدث ثقلهما فرقًا في خريطة المورّدين الدوليين إلى الاتحاد الأوروبي، وأن يؤثر على سياسته الخارجية تجاه إسرائيل وفلسطين. وكان من الممكن أن يكون النفط والغاز العربيان ورقة ضغط على الحكام الأوروبيين الذين هرعوا إلى تل أبيب عند اندلاع الحرب، ليجددوا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عهود الصداقة والتأييد اللامشروط.
إسرائيل عدو في الماضي حليف الحاضر والمستقبل
قد يكون السبب الثاني لضحك الوزير السعودي تحوّل إسرائيل من عدو في الماضي إلى صديقة لا يجوز بأي حال تهديدها أو حتى تأنيبها. ففي حين لم يكن ملك السعودية، فيصل، يخفي كراهيته الصهيونية في سبعينيات القرن الماضي، يعتبر قادة حاليون ومسؤولون كبار في دول الخليج الصهاينة حلفاء استراتيجيين، ويبادلونهم الثناء والزيارات الودّية. وبعد اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن في 1978 و1994 على التوالي، أبرمت الدولة الصهيونية في عهد نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي، اتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
أدّت اتفاقيات أبراهام ومبادرات التطبيع الأخرى مع إسرائيل إلى مزيد من القمع والتقتيل ضد الفلسطينيين
وهذه الاتفاقيات صفقة تطبيعيّة بوساطة الولايات المُتَّحدة، تُعزز العلاقات التطبيعية (القائمة بالفعل) مع الدول العربيَّة الأخرى، التي ليست طرفًا رسميًا في الاتفاقية، خصوصا الدول/ الأنظمة التي لم تُضْفِ بعد الطابع الرسمي على علاقاتها طويلة الأمد مع إسرائيل، إلى جانب الدول العربيَّة التي تقيم علاقات دبلوماسية كمصر والأردن.
وتعد الإمارات من أبرز المؤيدين لهذه الصفقة التطبيعية، حيث قال وزير خارجيتها خلال حفل التوقيع على الاتفاقية في واشنطن، في 15 سبتمبر/ أيلول 2020: "وأما بالنسبة لنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، فإن هذا الاتفاق سيمكّننا من مواصلة الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وتحقيق آماله في إقامة دولة مستقلة ضمن منطقة مستقرّة ومزدهرة". وعلى عكس هذا، أدّت اتفاقيات أبراهام ومبادرات التطبيع الأخرى مع إسرائيل إلى مزيد من القمع والتقتيل ضد الفلسطينيين.
تحلّل الباحثة الفلسطينية منال شقير في فصلها المخصّص للتطبيع البيئي العربي الإسرائيلي، في كتاب "تحدّي الرأسمالية الخضراء"، تداعيات مشاريع الطاقة والمياه العربية الإسرائيلية الحالية والمستقبلية على الفلسطينيين في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان المحتلة، وفي قطاع غزة المحاصر، وحتى في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948، حيث ينتشر الفصل العنصري في أكثر أشكاله وحشية. وتخوض الباحثة في تفاصيل مشاريع ضخمة في قطاع المياه والطاقات المتجدّدة على غرار "مشروع الازدهار" بجزأيه الأزرق والأخضر، وهو مشروع سيشتري الأردن بموجبه مائتي مليون متر مُكعَّب من المياه سنويًا من محطة تحلية مياه إسرائيليّة، يعتزم إنشاءها على ساحل البحر الأبيض المتوسط (الازدهار الأزرق)، وستستخدم الطَّاقة التي تنتجها محطة الطَّاقة الشمسيَّة الكهروضوئيّة بقدرة 600 ميغا وات، والتي ستُنشِئها في الأردن (الازدهار الأخضر) شركة "مصدر" للطاقة المُتجدِّدة، المملوكة للإمارات. وتخفي الألوان الزاهية بشاعة الممارسات الإسرائيلية من سرقة حصّة المياه الأردنية وتحويل روافد نهر الأردن واستنزاف مصادر المياه السطحية والجوفية وحرمان الفلسطينيين منها وتحويلها إلى المستوطنات.
بصرف النظر عن الأشكال التي تتخذها مشاريع الطَّاقة في البحر الأبيض المتوسط، تؤكد منال شقير على حقيقتين مهمتين: أولاهما العلاقة السببية المباشرة بين معاناة قطاع غزّة المحاصر منذ ما يزيد عن 16 عاما وحقول الغاز شديدة العسكَرة التي تسيطر عليها إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، والمشاريع المرتبطة بها. وثانيهما نفاق الاتحاد الأوروبي الذي يعامل شعبي فلسطين والجولان باعتبار أنهما أقلّ إنسانية من الأوكرانيين، من خلال استيراد الغاز الإسرائيلي كجزء مِن الجهود لمحاسبة روسيا على غزوها أوكرانيا. وتكتب الباحثة: "إنَّ نزع الصفة الإنسانية عن المستعمَر، وتواطؤ الدول العربيَّة في ذلك، يتمّ غسلهما باللون الأخضر مِن الاتحاد الأوروبي وإسرائيل عبر تعاونهما فيما يُصوَّرانه انتقالاً إلى مستقبلٍ أكثر خُضرة واقتصادٍ منخفض الكربون". ... ولعل التناقض والتزامن الصارخين بين المآتم في فلسطين الجريحة واحتفالات قمّة الخليج (كوب 28) في دبي، على ضفاف الخليج الفاخرة التي ينزل فيها رئيس إسرائيل، إسحق هرتسوغ، ضيفا مبجلا خير دليل على بشاعة التطبيع السياسي والبيئي.