عندما تحكي هؤلاء الزوجات
أمّا وأن العام يتهيأ لينصرف، ففي الوُسع التذرّع بهذا لاستدعاء كتبٍ شائقةٍ صدرت في غضونه. أختار هنا "أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، للعراقية مي مظفر، و"ترحال، عديّ مدانات .. حكاية أعيشها" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، للأردنية إفلين الأطرش، لأقول إنهما ليسا كتابيْن فحسب، وإنما حدثان أدبيّان. ليس فقط لانتسابهما إلى جنسٍ شحيح الحضور في الكتابة السردية العربية (وغير العربية)، سمّته صديقتنا بسمة النسور "سيرتان في سيرة"، وإنما أيضاً للمتعة الضافية في ما كتبته مي وإفلين عن زوجيهما الراحلين، التشكيلي رافع الناصري والقاصّ والروائي عديّ مدانات، عن تجربتين في الحياة والكتابة والعمل العام والإنتاج الإبداعي، واجتمعت فيهما مقاديرُ غزيرةٌ من حرارة الحكي وأرطالٌ من الحب. ومع التمايز البديهي بين الأنفاس الخاصة لكلِّ من الكاتبتين، إلا أن جمالا مقيما في عمليهما يجمع بينهما، ويجعلهما في منزلةٍ عاليةٍ من الرهافة.
تصوغ إفلين نصّها متحدثةً إلى عديّ، تُخاطبه، تتذكّر، وتنتقل من محكيةٍ إلى أخرى، وتطلّ على وقائع أردنية وفلسطينية وعربية، وعلى اشتباك القاصّ الأردني الراحل بالعمل العام والنضال الحزبي والنقابي، وهو الذي كان محامياً نشطاً، ترافَع عن العمّال والمعتقلين السياسيين. هو "مسيح الماركسية" على ما كان يناديه أصدقاء له. تسرُد الكاتبة عن لقائها الأول في جمعٍ مع الإنسان الذي تعلّقت به، ثم يصبح "إما هو وإلا فلا"، وتكتُب "صرتَ نقطة ضعفي ومصدر قوتي". وفي أثناء الزواج "لا يستطيع أحدٌ الادّعاء بأن مرحلة التأقلم سهلةً ومريحة ..". و"كان لاختلاف فروقنا الفردية أثره الإيجابي أحياناً كثيرة، وأثره السلبي أحياناً أخرى". ثمّة أصدقاء بلا عدد، أبناء لم تكن علاقة الأب بهم يشوبُها "التدليل"، ثمّة كثير مما بين زوجين حبيبين، .. إلى أن تأزف ساعة الرحيل.
هناك في بغداد، بعد سنتين من التعارف أعقبت نظراتٍ "فضوليةً" أولى في معرض تشكيلي، يتزوّج رافع الناصري ومي مظفر التي يقطُر نصّها بالوفير من دفء الحب وشعاعه. بعد ما هو أشبه بكوخ سكناه سنواتٍ، يستقرّان في منزل واسع تُسرق حاجياتٌ منه لاحقاً، وهما مرتحلان مقيمان في عمّان. أسفار ورحلاتٌ معاً، ولمّا يكون رافع وحيداً فيها يعود بأجمل الهدايا لزوجته التي يعرّفنا كتابها على مقاطع من سيرتها شاعرةً وقاصّة، وعلى رافع الممتلئ بالفن، القلق المُهاب، بوجهٍ طفولي، إلى أن يتوفّى، وتخرُج مي على الأعراف، عندما تُرافق الرجال إلى المقبرة، "ركعتُ عند حافّة المقبرة حتى واراه التراب".
الكتابان الشفيفان على قرابةٍ مع كتاب عبلة الرويني عن زوجها أمل دنقل "الجنوبي" (صدرت أولى طبعاته في 1985)، حضر فيه الشاعر الصلب، القلق، المحبّ، الفقير، الخشن أحياناً، الدافئ دائماً، "وكان الشعر سيد بيتنا الوحيد". والزوجة التي أحبّت أمل بلا حدود، وقد تعرّض الشاعر للمرض اللعين، بعد وقتٍ من الزواج. وثمّة كتاب نهال كمال عن زوجها عبد الرحمن الأبنودي "ساكن في سواد الننّي" (ريشة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020)، كتبته عن "الخال" (الوصف الأثير للأبنودي) الذي كان في حياتها 24 ساعة، صوتُه في أذنها طوال الوقت. تزوّجته عشرينيةً فيما هو في نحو الخمسين. حكاية اللقاء الأول حاضرة، كما وداع الموت، وكذا نصيحتُه "كوني نفسك، وسيبي الأمور تمشي". وعلى مبعدةٍ زمنيةٍ من هذا الكتاب، الرائق، ثمّة كتاب إحسان بيات الدروبي "سامي الدروبي" (دار الكرمل، دمشق، 1982)، عن زوجها المترجم والوزير والسفير الذي اشتُهر بترجمته دوستويفسكي وأراغون. تعرّفك الزوجة المحبّة على مناقبية رجلٍ من زمنٍ عربيٍّ انقضى، على عُصامية مثقفٍ دؤوب، ضمّ كتابها "لمحاتٍ" من حياتيهما، في دمشق وبلغراد والقاهرة ومدريد و... أما "أيامي مع جورج طرابيشي.." (دار مدارك للنشر، الرياض، 2020) فكتابٌ تروي فيه زوجة المفكّر المترجم، الناقد الطليعي حقا، هنرييت عبودي، قصتهما، في طموحٍ منها لإعطاء قرّائه صورةً حميميةً عنه. حديث الحب مقرونٌ غالبا بحديثٍ مسترسلٍ عن كتبٍ ومصنّفات في الفلسفة والرواية والفكر، وعن تجربةٍ في نضالٍ حزبيٍّ غادره طرابيشي بعد سجن ومرارات، وعن غربةٍ وارتحالات، وعن أسئلةٍ قلقة ومقلقة. وإلى هذه الأمزجة والأرواح المؤتلفة، ثمّة "معك"، كتاب سوزان طه حسين عن زوجها العميد. ربما هو الأول عربياً في هذا الجنس "السيري" (صدر مترجماً في القاهرة عن الفرنسية في 1977 قبل صدوره بالفرنسية في 2011)، حفل بكثيرٍ يضيء على تجربة سيرةٍ مشتركةٍ شديدة الخصوصية، لاندراج مزاجَيْن ثقافيين في حياة واحدة. وعلى خلاف الكتب السبعة، كتبت سهام اليحيى "أيامي معك" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2014)، في حياة زوجها أستاذ الأدب الأدب العربي، محمود السمرة الذي كتب مقدّمة قصيرة له، وقد جالت فيه كاتبتُه في محطّات البحث عن العلم والمعرفة، وعن العمل في المغترب الكويتي في الخمسينيات، ثم في الأردن، بعد سردٍ حميمٍ عن لقاء أول ثم زواجٍ في يوم الثورة المصرية 1952. وجاء كتابا طاف في الذاتي المحض، في الحبّ والنجوى، وفي العام، وفي أحداثٍ مما مرّ في الحياة، كاشفٍ ودالّ.
أخذ كتابا إفلين الأطرش ومي مظفر صاحبَ هذه الكلمات إلى مطالعة الكتب الستة، فأحرز متعةً واسعةً. شكرا لهما على هديتيهما في 2021.