عندما تحدّثنا "الإيكونوميست" عن الدراما المصرية
صحيحٌ إلى حدٍّ غير قليل ما جاء في تقريرٍ لمجلة الإيكونوميست البريطانية، نشرته في عددها الأسبوع الماضي، إن تأثير القوة الناعمة لمصر تراجَع عربيا، وإن أبناء الألفية يجدون صعوبةً في فهم اللهجة المصرية، فهم في هذا ليسوا مثل آبائهم الذين اعتادوا عقودا على مشاهدة منتوجات الدراما والسينما المصريتين. ولئن اشتمل التقرير على بعض ما هو معلوم، وأفادت عنه مصادرُ مستقلّةٌ ومعارضةٌ، متابِعةٌ وموثوقة، بشأن تدخل المخابرات وأجهزة الأمن وهيئاتٍ رسميةٍ معنيةٍ بالإعلام في مصر في محتوى صناعة الترفيه والإنتاج الدرامي، وتوجيهه أحيانا، فإن التقرير جاء أيضا على ما سمّاه "هوس" الرئيس عبد الفتاح السيسي بالسيطرة على ما تبثّه التلفزات في مصر. وإنه لهذا السبب، أوكل لرجال المخابرات اختيار ما يجب بثّه للمصريين، و"بدرجةٍ متطرّفة، حتى بالمعايير المصرية". ولهذا التقرير في المجلة البريطانية المقدّرة قيمته، بالنظر إلى اتّساقه مع ما تُواصل صحفٌ أميركيةٌ وأوروبيةٌ وازنةٌ نشرَه عن أحوال المصريين التي تزداد تعاسةً تحت حكم السيسي، بالنظر إلى تفاقم الفقر والبطالة ونقصان العدالة الاجتماعية. وأيضا بالنظر إلى صلة إحاطة "الإيكونوميست" عن هيمنة المنظور الأمني على محتوى الدراما التلفزيونية، المُنتَجة لموسم شهر رمضان الحالي، بما تعلنه هيئاتٌ حقوقيةٌ دوليةٌ عن تردّي أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
لا يُغفل التقرير أن الرقابة الحكومية كانت قائمة قبل السيسي، لكنه يشير، في الوقت نفسه، إلى أن السلطة في عهد حسني مبارك كانت تأذن لتصوير مسلسلاتٍ وأفلامٍ الفساد وتوحش الشرطة، الأمر الذي لم يعد مُباحا، بل صار من غير المسموح تصوير الفقر المدقع، وبات مطلوبا تظهير رجال الشرطة طيبين. وليس مؤكّدا ما ذهبت إليه "الإيكونوميست" أن النظام الناجم عن الانقلاب العسكري في 2013، برئاسة السيسي، يشعر بأن الأفلام القديمة التي صوّرت فظاظة رجال أمن، وشرور مسؤولين في البوليس، كانت عاملا في تغذية احتجاجات المصريين ضد الشرطة في يناير/ كانون الثاني 2011، والتي آلت إلى الثورة المعلومة التي أنهت حكم مبارك. وهنا تصدُق المجلة في أنه يغيب عن مدارك القائمين على النظام أن تلك الاحتجاجات كانت، في شرارتها، نتيجة سلوك الشرطة، سيما وقد أشعلتها واقعة مقتل الشاب خالد سعيد في مركز احتجاز أمني في الإسكندرية. ومن البلاهة، في أقلّّ تقدير، أن يُقنع أحدٌ نفسَه بأن المصريين ما عاينوا القمع والتجبّر إلا على شاشات السينما والتلفزيون، فيما هم كانوا يرفلون بحنانٍ غزيرٍ من الأمن والشرطة.
ومن المقرّر أن يُعرض في موسم دراما رمضان الحالي الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار" الذي شوهد الأول منه في رمضان العام الماضي. ومن المتوقع أن يأتي على "بطولة" الشرطة المصرية في إنهاء اعتصام الساخطين على الانقلاب العسكري صيف 2013 في ميدان رابعة العدوية في القاهرة. والمعلوم أن مذبحةً كبرى تمّت في العملية المشهودة، والمعلوم أيضا أن هذا المسلسل من إنتاج شركة سينرجي للإنتاج الفني، التابعة لمجموعة "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية" التي تملكها المخابرات المصرية، وهذه باتت، إلى حد بعيد، في السنوات الأربع الماضية، تكاد تحتكر إنجاز أكبر المسلسلات في مواسم رمضان، حيث تقدّم في الموسم الراهن 20 عملا دراميا. وكان مقرّرا أن يُعرَض من إنتاجها مسلسل "الملك"، عن الفرعون أحمس، لولا وقف تصويره، بعد انتقاداتٍ واسعةٍ طاولت مغالطاتٍ تاريخيةً فادحة فيه، وذاع أن السيسي هو من أمر بوقفه.
وليست المرّة الأولى التي تلتفت "الإيكونوميست" إلى أحوال الدراما المصرية في عهد السيسي، لكن تقريرها الأسبوع الماضي توفّر على جرعةٍ مضافةٍ من تشخيص الإطار العام الذي يتم ضمنه إنتاج هذه الدراما، لتنتهي إلى أن "قطاع الترفيه في مصر في خدمة الأمن". ولا يحسبُه صاحب هذه الكلمات تقريرا شحط الذئب من ذيله، وليس من فائض الاعتداد بالذات أن يُشار هنا إلى أن "العربي الجديد" أحاطت غير مرة بهذا الحال، وبتوجيهات لجنة الدراما للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في هذا الخصوص، وبالمدى الذي بلغته الهيمنة الأمنية على قطاع الإنتاج الدرامي، غير أنه من بالغ الأهمية أن يجد تقرير المجلة البريطانية في الذي أوردتْه شاهدا آخر على تراجعٍ ماثلٍ لقوة مصر الناعمة عربيا.