عمّان والمغتربون
أتخيّل عمّان في أواخر الصيف عجوزًا ناعسة تمتشق مكنستها وهي تصيح بمغتربيها: "هيّا ليعدْ كلّ منكم إلى داره، فقد حلّ الليل وحان وقت النوم". تختصر تلك العبارة علاقة الأردن بمغتربيه، ولا تبتعد عمّان العجوز عن الواقع قيد أنملة، عندما تطلب من "أبنائها" المغتربين العودة إلى "ديارهم"، لأن الأردن لا يهيّئ أبناءه لغير الاغتراب، ولا يرحّب بهم إلا في العطل الصيفية فقط، وما دون ذلك عليهم أن يسافروا ويعملوا ليجلبوا المال.
ولست مجانبًا الصواب عندما أشطر الأردنيين إلى نصفين، مغتربين وغير مغتربين، لأن هناك من شاء هذا التنصيف والتشطير، فجعل من الشطر الأول (المغتربين) أساسًا، وسدرة منتهى لمرحلة ما بعد الإعداد والتعليم، فأن تكون مغتربًا فأنت "المواطن المثالي"، والأنموذج الذي تجنّد من أجله وتحشُد سائر المرافق والتسهيلات؛ لأنك "العملة السهلة" بالنسبة للحكومة التي تبحث عن أقصر الطرق للحصول عليها، إما عبر تسوّل المساعدات الدولية، أو عبر أموال المغتربين التي لا ينقطع سيلها طوال العام على هيئة تحويلاتٍ لأسرهم، أو في ذروة الموسم خلال العطل الصيفية التي يبلغ فيها البذخ أوجه. أمّا الشطر الآخر (غير المغتربين)، فمجنّدون إما لخدمة المغتربين والسيّاح، خصوصًا قطاعات النقل والعاملين في المرافق الخدمية والسياحية، ويشارك هؤلاء الحكومة انتظارها السنويّ، لأن الموسم يعود عليهم بمنافع جزئية ترفع عنهم جانبًا من مكابدات المعيشة. وثمّة قسم آخر من الشباب قيد الإعداد في المدارس والجامعات، يحظون بقسط من الدلال الحكومي، أملًا في الحلول محلّ المغتربين القدامى عندما يكبرون، لكن الويل لمن لا تسعفه شهادته في "النجاة" إلى بلاد الغربة، لأنهم سينضمّون إلى أفواج العاطلين، أو العاملين بأجور زهيدة لا تقيم أودًا، ولا تحقّق مستقبلًا، باستثناء قسمٍ يسيرٍ منهم يعدّون من الضرورات لحفظ التوازن السياسي والاجتماعي للنظام، وهؤلاء يتمّ تعيينهم في الوظائف الرسمية، إرضاء واسترضاء للعشائر الوازنة، والشخصيات المهمّة، على الرغم من أنهم يستنزفون الشطر الأكبر من خزينة الدولة. أمّا المغتربون فقد استقرّ في أذهانهم، بفضل غسيل الأدمغة الطويل، أن بلد الغربة أصبح الوطن الحقيقيّ بالنسبة لهم، وما الوطن الأصيل إلا محطّة عابرة، يمضون فيها الإجازة الصيفية وحسب، لضرورات "صلة الرحم" ليس إلا، في بلد عديم الفرص.
أدري أنني لا أضيف جديدًا في وصف دولةٍ عمادها الاقتصاد الريعي الخدمي غير الإنتاجي، فذلك مفهوم، لكن غير المفهوم حقًّا.. هو الإصرار العجيب على قتل المشاريع الإنتاجية في مهدها، والتضييق عليها، مقابل الاحتفاء بالمشاريع الخدمية، وتيسير كل السبل أمامها، وليست ثمّة تسهيلات لتوطين الصناعات الثقيلة، والتكنولوجيا، والمعرفة، على غرار ما فعلته سنغافورة في مهد استقلالها، عندما كانت تعرض على الشركات الصناعية الضخمة تسهيلاتٍ استثمارية لا تحلم بها في أي بقعة أخرى، من أراض مجانية، وأيد عاملة رخيصة، وصفر من الضرائب، لقاء تدريب قسم من مواطنيها على التصنيع. وما هي غير بضعة عقود حتى أصبحت سنغافورة دولة صناعية متطوّرة، دخل الفرد فيها الأعلى في العالم، وكذا جواز سفرها، على الرغم من أنها غداة استقلالها كانت أشدّ فقرًا وتخلّفًا من الدول العربية قاطبة.
لا جديد في ذلك أيضًا. لكن لعل ما يسترعي النظر في الأردن، ويجعل المرء على يقين من قرار التهميش المقصود، هو ذلك الاحتفاء الغريب بمصطلح "السياحة"، الذي لم يعد يقتصر على اجتذاب السيّاح، بل استطال المصطلح، فصرنا نسمع بـ"السياحة العلاجية" التي تعني اجتذاب المرضى من الخارج للعلاج في المرافق الصحية المحلية، وكذا "السياحة الجامعية" التي تشير إلى استقطاب الطلبة للدراسة في الجامعات الأردنية... ثمّ برز أخيرًا مصطلح "السياحة الدينية"، الذي يعني اجتذاب أبناء الديانات والطوائف إلى مزاراتٍ بعينها على غرار "المغطس" وسواه. وكان يمكن أن يكون الأمر مفهومًا ومسوّغًا لولا إضافة "السياحة" دون غيرها من بواعث الجذب الأخرى، غير الموجودة أصلًا في عُرف مسؤولين مُغرمين بـ"الفترينات" وحسب.
أما العجوز التي تستقبل أبناءها بالأحضان مطلع الصيف، وعينها على "جيوبهم"، ثم تطردهم بالمكنسة بعد فراغ الجيوب، فقد استأنفت نومها العميق.