16 نوفمبر 2024
"على عهدة حنظلة"
ليس وحده الوفاء لصديقه ناجي العلي ما جعل الروائي الكويتي (العراقي الأرومة)، إسماعيل فهد إسماعيل، يكتب عنه روايةً، ويسمّيها "على عهدة حنظلة" (دار العين، القاهرة، 2017)، وإنما أيضا، على الأرجح، غواية الفكرة التي خطرت إلى باله، لمّا توفي رسام الكاريكاتير الفلسطيني، بعد موتٍ سريريٍّ (أو غيبوبةٍ متقطعةٍ)، في غرفة مستشفىً في لندن، استمرّ خمسة أسابيع، بعد إصابته برصاصات اغتياله. موجز الفكرة أن تكون هذه الفترة زمان الحكي في روايةٍ عن ناجي، وأن تكون غرفة المستشفى مكان الحكي، على أن ينفتح إثناهما على أزمنةٍ وأمكنةٍ متنوّعّةٍ، من ماضٍ قريبٍ وآخر بعيد، ومن غير موضعٍ في فلسطين والكويت ولبنان ولندن و... . اختار الروائي المجرّب، والخبير في مناوشة المرويّات والحكايات، مسلكا فنيّا، يأتي بحنظلة، الشخصية الشهيرة التي أبدعها ناجي، ورافقت رسومَه، إلى غرفة المستشفى، ليتناجى مع ناجي ويتحاورا، ويتداخل صوتاهما، فيلتبس عليك، أحيانا، أنت القارئ، تمييز ما يقوله الرسّام عمّا يقوله حنظلة. وفي الأثناء، لا يغيب عن النصّ أن ناجي مستغرقٌ في لا وعيٍ ظاهر، وفي استعاداتٍ للوعي شحيحة، فينتقل في محيطٍ هلاميٍّ، حليبيٍّ كما مفردة الكاتب، من الأبيض إلى الرمادي إلى الأسود. ثمّة كلامٌ من الاثنين إلى بعضهما، وأيضا مع زوّارٍ يعودون ناجي. .. يقول إسماعيل فهد إسماعيل إنه بدأ كتابة روايته هذه، وأنجز فصلا منها، في 1988، أي شهورا بعد رحيل صديقه، ثم تركها ما يقترب من ثلاثين عاما، قبل أن يستأنف كتابتها. وبذلك، لا يكون صاحب "الشّيّاح" قد قبض على فكرة بناء روايةٍ، يسرد فيها البطل الحكايات أمام جسدٍ مسجّى في غرفة إنعاش في مستشفى، من رواية إلياس خوري "باب الشمس" (1998)، ومبنيا الروايتين يتشابهان ويتقاطعان ويفترقان.
ليس هذا مهمّا، كما ليس مهمّا أن نور الشريف زار ناجي العلي في رقدته تلك في المستشفى اللندني (وتعانقا!)، للحديث معه عن فيلمٍ تسجيلي، كان يستعدّ لإنجازه عن ناجي نفسِه (عُرض فيلم عاطف الطيب، غير التسجيلي، بطولة نور الشريف، سيناريو بشير الديك، في 1992). تَعْرف عن هذه الزيارة في الرواية، وعن زيارات إميل حبيبي وأحمد الربعي وغانم النجار وآخرين الرسّام في غضون موته السريري في المستشفى، ولكن ليس ضروريا أن هذه الزيارات جرت فعلا، أم أن الكاتب ابتكرها، فالجوهريّ في الإبداع الفنّي في "على عهدة حنظلة" هو الالتباس الحاذق بين الواقعي والمتخيّل، بين الحقيقي وغير الحقيقي، هو بالضبط في تناوب صوتيْ حنظلة وناجي، وكذا صوت الكويتية حنين، الشخصية اللافتة، وذات الوظيفة الأدبية والفنية الفاتنة في النص، وصوت وداد زوجة ناجي. هو أيضا في مناورات الانتقال بين وقائع ومحطاتٍ، بعيدة زمنيا وأخرى قريبة، في حياة الكاريكاتيرست الجسور، ومنها ترحيلُه من الكويت في 1985، حيث كان يعمل ويقيم، ويكون في وداعه في المطار الكاتبان الكويتيان، أحمد الربعي وغانم النجار، وكان ترحيلا "بقرار فلسطيني مرتّب"، كما قال إسماعيل فهد إسماعيل خارج الرواية التي اكتفت بالإيحاء بذلك، ومالت إلى مسؤولية "الموساد" عن اغتيال ناجي، وإنْ جاءت على إشاعة إقدام قيادةٍ فلسطينيةٍ عليا على ذلك..
تحضر هذه الوقائع، وكثيرٌ غيرها، في حكيٍ يصلها بسيرة ناجي كلها، منذ صباه في قرية الشجرة، ثم لجوء أسرته إلى لبنان، وكذلك بمنبت حنظلة في رسوماتٍ أولى له في الكويت، نهاية الستينيات، وبتفاصيل أخرى. وذلك كلّه في إيقاع من سردٍ يتتابع بليونةٍ وإيقاعٍ جاذبيْن، في ثمانية فصول، يفتتح إسماعيل فهد إسماعيل كلا منها بفقرةٍ من محمود درويش عن ناجي، وكأنه يحرص على بقاء الإثنين معا في أسرة مبدعي فلسطين الواحدة، سيما أيضا أن الكويتية حنين تقرأ في الرواية نصوصا من إميل حبيبي، الذي يزور ناجي في المستشفى، ويغيب ويحضر في مساحاتٍ غير قليلة في هذا العمل الذي قامت مغامرتُه الفنيةُ المثيرةُ على حضور ناجي وغيابه، على برزخٍ من الوعي واللاوعي، على مناجاةٍ بديعةٍ بين الرسّام وحنظلته. وفي الأثناء يلتقي حنظلة هذا بحنظلةٍ آخر، قَدِم به سعد الله ونوس إلى غرفة المستشفى من مسرحيةٍ معلومة. والأهم أن صنيع إسماعيل فهد إسماعيل في هذا كله، وغيره، قام على جمال ظاهرٍ لسردٍ ينهض على سيرة فنان كبير، سردٍ لم يكترث بخراريف ذاعت عن مقتله، وآثر الاحتفال بشجاعة هذا الفنان وإبداعه، فكانت هذه الرواية التي انكتبت هذه السطور عنها بمناسبة ذكرى رحيله قبل أيام.