على سطح صفيح ساخن

10 فبراير 2023

(محمد العامري)

+ الخط -

قضينا أنا وأهلي، في طفولتي، ليلة عند أحد الأقارب، في مدينة الحسيمة المعرّضة للزلازل. وجعلني الأقارب أنام فوق السرير العلوي، في غرفة نوم الأطفال، رغم عدم ارتياحي لذلك. في الصّباح، أفقت ووجدتُ نفسي على الأرض، يتملّكني شعورُ من قُذف من فوق. لم أفهم ما حدث، لأنّه ليس من عادتي الوقوع من السّرير. في المطبخ، وجدتُهم يتّحدّثون عن هزّة أرضية وقعت الليلة الماضية. كانت الهزّة خفيفة، لكنّها أيقظت الكبار، وادّعى معظم الصغار أنّهم شعروا بها. لكني لم أشعر بشيءٍ إلا أنّ الاستيقاظ بجسدٍ مرضوض مثقل بالنّوم، وتخيُّل وقعتي من علوّ قرابة مترين، جعلَا للزّلازل ذاكرةً حسّية، مرتبطة بفقدان السّيطرة على الجسد، مع ارتباك السّقف والجدران.

أن تهتزّ بك الأرض يعني أنك قد لا تفيق من ذلك، أو تفتح عينيكَ تحت أنقاض بيتك، عاجزاً عن الحراك والتنفّس. ولعلّه أسوأ كابوس، يُمكن أن تستيقظ عليه، فتقفز من نومك، هارباً من سريرك وبيتك الآمن، الذي كان ملجأك فوق الأرض، وصار خطراً عليك. وحينها تتمنّى لو لم تفتح عينيك على الإطلاق، فترتاح من العذاب الذي سيمرّ بطيئاً على قلوب الذين علقوا بجراحٍ قاتلة، أو بلا جراح غير هوْل فقدان عائلتك التي لم ترها بعينيك وهي تفارق الحياة، لكن الصّمت الذي سيسود بيتكم فجأة، بعد أن كان مليئاً بالهرج والضَّجيج المحبّب، سيُخبرك بذلك.

حاول شخص هولندي الرُّكوب على المأساة، بادّعاء التنبُّؤ بها، ليؤجّج الإحساس بالذّنب لدى كثيرين، ووهم السّيطرة الذي يتملّك الإنسان منذ الأزل ويعيد إلى الواجهة حلم النبوءة، أو جشع المعرفة الكاملة، أو وهمِ القدرة على التحكّم فيما يحدُث على الأرض، والعالم لم يستفق بعد من صدمة العجز عن منع ريح كورونا من الهبوب، وجعلِه قشَّةً واهنةً تحت رحمةِ مزاج كوفيد رغم كلّ المختبرات والتقنيات التي تتخصّص في طُرق مواجهة الكوارث الطبيعية، التي تقع ضمن قوانين الوجود وتحدُث منذ الأزل، أو التي تحدُث نتيجة ما يفعله الإنسان.

في جميع الحالات، تستعدُّ الدّول المتقدّمة بشكل كبير، لاحتمالات الكوارث، لتخفيف الخسائر البشرية على الأقل. وتدرك جيّداً أن من الممكن التّخفيف من قوتها وآثارها، بتقنيات البناء والتجهيز التي تتحمّل قوة الزلازل، وبنية الصّرف الصحي وطرق التخفيف من آثار الفيضانات وموجات المطر القوية. عموماً، مصائب الطبيعة متوقّعة، بدون تحديدٍ دقيقٍ لوقتها وحجمها، لأنّها تتفاعل مع نفسها، فالزلازل والفيضانات لم تتوقف في تاريخ كوكب الأرض. والمناطق المعرّضة للزلازل لا تُفاجئ أحداً، والمفروض أن تضع السّلطات فيها معايير صارمةً للبناء، لتكون مضادّة للزلازل، حتى تقلّ الخسائر البشرية، فصحيح أنّه لا يمكن التنبّؤ بها، لكن يُمكن الحماية منها.

ولنا فيما فعله وباء كورونا بنا مثالٌ لقوة أكبر من أكثر الدّول جاهزية. وما من حلّ حقيقي أمامه سوى أن تكون البيئة التّحتية قوية، لتخفيف الآثار. وطبعا، حتى الدول الأكثر استعداداً لم تجد حاجزاً بينها وبين الوباء، لكنها وجدت نظاماً صحّياً قوياً حتى لو انهار لاحقا. أما الدّول الأخرى، فكانت في مهبّ الوباء، وانهارت من البداية، بحيث لم يكن أمام كثيرين سوى الدعاء والانعزال التام، لينجوا من الأسوأ.

لكن للزّلازل حلولا، تتمثّل في الجواب عن سؤال: هل نحن مستعدّون لها؟ أظن أننا ندعو جميعاً أن تلطُفَ بنا الأقدار. وصفائح الأرض، التّكتونية منها وغير التّكتونية، التي نقف عليها كما تقف قطّة تينيسي وليامز على صفيحٍ ساخن، في عنوان مسرحيته "قطّة على سطحِ صفيح ساخن"، وهي المسرحية التي حُوّلت إلى فيلمٍ حمل العنوان نفسه، وأدّت بطولته إليزابيث تايلور.

لعلّ الفرق بين الصّفيحة والصّفيح هو بين ما يقف عليه الإنسان في بلداننا، التي يُعمّر معظمها بالبناء المهدّد بالانهيار في أول هزة للأرض، أما إن أكمَلت الأرض رقصَتها، بالارتدادات والاهتزازات، فلعلّنا نختفي ... مدناً وأحياءً كاملة، فالمقاولون يهتمون بالمال لا بالجودة، والسُّلطات ... آه من السُّلطات، فهي إما فاسدة أو مُهمِلة. فلا نعرف حتماً إن كنّا نقف على صَفيحة تكتونية، أو على ما ابتُلينا به من صَفيحٍ فَصيح.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج