علوم اجتماعية حوارية... للخروج من الاستقطابات العميقة والعنيفة
"علوم اجتماعية حوارية" عنوان محاضرة قدّمها ساري حنفي يوم 13 مايو/ أيار 2023 في تونس العاصمة في إطار برنامج المحاضرات الكبرى التي ينظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس. افتتح المحاضرة رئيس المركز وأستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة التونسية، المهدي مبروك، وأدار النقاش منير السعيداني، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية ورئيس تحرير المجلّة التونسية للعلوم الاجتماعية التي تصدُر عن مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، والذي يحتل أيضا عضوية اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لعلم الاجتماع (2018 - 2022)، كما انتُخِب أخيرا عضوًا في مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية للفترة 2023-2027.
ساري حنفي هو أستاذ مشارك في علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيس تحرير سابق للمجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات"، وهو الرئيس الحالي للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، كما عمل نائب رئيس وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (2012 -2016)، وكان مديرا للمركز الفلسطيني للاجئين والشتات (رام الله). عمل أستاذا زائرا في جامعات بواتييه (فرنسا)، وبولونيا ورافينا (إيطاليا)، وباحثا زائرا في معهد كريستيان مكلسون - بيرغن (النرويج)، وهو متخصّص في السوسيولوجيا السياسية، وسوسيولوجيا المعرفة، وسوسيولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الهجرة واللاجئين والعدالة الانتقالية؛ لديه عدد كبير من المقالات، وأكثر من 12 كتابا بين تأليف وتحرير؛ فاز بجائزة عبد الحميد شومان عام 2015 عن "دور التكنولوجيا في التغير الاجتماعي"، وبجائزة الكويت لعام 2015 في مجال العلوم الاجتماعية. ولعلّ كتابه "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب؟" (مركز نهوض للدراسات والأبحاث، الكويت، 2021) من أهمّ مؤلّفاته وأكثرها جدلا. الطريف فيه أن صاحبه يستشهد في تصديره له بالشيخ الزيتوني محمد الطاهر بن عاشور (1879 – 1973) صاحب كتاب "أليس الصبح بقريب؟" الذي اتخذه ساري حنفي عنوانا فرعيا لمؤلَفه، قائلا: "أنا اليوم أتواصل مع روح بن عاشور، فقد وجدت أنّ كثيرا ممّا أتى به صالح ليومنا هذا (...) ولعلّ النقطة المشتركة الأخرى مع كتاب بن عاشور هي أنّ كلا منّا مُسلّح بحلم سعيد ويوتوبيا".
حين نقرأ مقدّمة الكتاب، قد يعيق الموقف "العلموي" عملية ترجمة منطق التفكير السوسيولوجي للكاتب، وتحديد مدى انضباطه لموضوعية التفكير العلمي الاجتماعي، غير أنّ قرّاء ساري حنفي ومُتابعيه يُدركون وجود خيط ناظم لمشروعه الفكري، بالرغم من تنوّع الموضوعات التي اشتغل عليها وتوزُّعها على مباحث مُختلفة. قد يكون من الصعب فهم فرادة هذا الكتاب، التي تكمن في استناده بقوة على تجربة المؤلّف الشخصية في كلّ ما يتعلّق بالمواقف السياسية وبالتجربة الحياتية وبالمسار العلمي والمهني؛ فهناك دائما معرفة ضمنية يكتسبها الباحث في علم الاجتماع من حياته اليومية، توجّهه في طريقة تناوله قضايا المجتمع والحياة. ولعلّ هذا ما يجعل حنفي في كثير من مؤلّفاته يُفكّر في معنى الأمور التي يمرّ بها ويحفر عميقا ليمسك بأسباب حدوثها، فقد زاول حنفي تعليمه الجامعي في سورية ثمّ فرنسا، وعمل في مؤسّسات أكاديمية في مصر وفلسطين وفرنسا ولُبنان وقطر. وهذا جعله محاطا بنقاشات وسجالات كثيرة في هذه الفضاءات الجغرافية المختلفة، فهو، وبعد الاشتغال على قضايا تهمّ مجتمعه المحلّي (الفلسطيني)، اهتمّ بإشكالات البحث العلمي الاجتماعي العربي، ليتركّز اهتمامه في السنوات الخمس الأخيرة على كيفيات استعادة الرابط بين العلوم الاجتماعية نفسها، وبينها وبين الفلسفة الأخلاقية من جهة، وبين الأخلاق وعلوم الشرع من جهة أخرى. ولا يتم ذلك، حسب حنفي، إلا "من خلال ربط الدين (لا بوصفه فقهاً ولكن بوصفه أخلاقا) بالعلوم الاجتماعية، بحيث تتعاون علوم الشرع والعلوم الاجتماعية في عملية التشريع، مستوحيين من فهمهما مصادر الأخلاق (من الدين والفلسفة الأخلاقية)".
تأتي محاضرة ساري حنفي في تونس في سياق تطارح مجموعة أفكار سجالية ومناقشتها مع جماهير مختلفة
تلك، إذن، الفكرة الأساسية التي اشتغل عليها حنفي طوال فترة ترؤسّه الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، والتي نجد جذورها في برنامجه الذي قدّمه في خطابه خلال ترشّحه لرئاسة الجمعية في مؤتمرها في يوليو/ تموز عام 2018 في تورنتو (كندا)، وعبّر عنها، في مناسبة أخرى، بقوله "ما أفعله كسوسيولوجي هو ربط سوسيولوجيتي بالفلسفة الأخلاقية (وأدعو باحثي العلوم الاجتماعية إلى عمل ذلك)". ويتكون برنامج حنفي من ثلاث نقاط: سوسيولوجيات في حوار؛ التوجّه نحو مقاربة ما بعد استبدادية؛ والأزمة الحالية حول نظرية العلمنة. وقد سعى في المحاضرة التي قدّمها في تونس إلى التوسّع في النقطة الأولى وتعميقها.
درس تطبيقي .. وجدل المعياريّة
قال ساري حنفي إنّ محاضرته نسخة مُصغّرة من المحاضرة التي سيُلقيها أمام السوسيولوجيين في العالم في المؤتمر العشرين للجمعية الدولية لعلم الاجتماع (ISA) الذي سيُعقد في ملبورن في أستراليا بين 25 يونيو/ حزيران و1 يوليو/ تموز 2023. وتأتي محاضرته في تونس في سياق تطارح مجموعة أفكار سجالية ومناقشتها مع جماهير مختلفة. وليس خافيا تبنّي حنفي تصنيف مايكل بوراوي السوسيولوجيا التي قدّمها في أجناس أربعة (أكاديمي – نقدي – خبري -عمومي). ويبدو أنّ هذه المحاضرة تمثّل تمرينا تطبيقيا وتشابكا حقيقيا بين السوسيولوجيا النقدية والجنس الذي أسماه بوراوي سوسيولوجيا العموم من جهة، وبينها وبين الفلسفة الأخلاقية من جهة ثانية.
جاءت الأفكار التي تضمّنتها المحاضرة كثيفة ومُركّزة، وتميّز أسلوب المحاضر بالطرافة والنشاط، إذ كان يتنقّل بسرعة مذهلة ذهابا إيابا من فكرة إلى أخرى، وكان كثيرا ما يستدلّ بالوقائع الملموسة وبأمثلة من الظواهر المعاينة واقعا، وفوق ذلك، هو يترجم هذه الوقائع إلى لغة سوسيولوجية، ويتوسّط مفاهيم وكلمات مفتاحية استعار أغلبها من الفلسفة الأخلاقية، فقد استعمل المحاضر في آن واحد أداتين: التجريبية والمثالية التي يتفكّر بها. وقد بدتا مترابطتين بشكلٍ لا ينفصم في ذهن حنفي. فهو ينتقل من واحدة إلى أخرى، فيجعل التصوّرات المجرّدة والرمزية تحلّ محلّ المعطيات الملموسة المجمّعة فعليا بواسطة المعاينة التي تتطابق معها.
تحاول هذه الورقة تقديم أهمّ الأفكار في محاضرة حنفي، والتي لخصها منير السعيداني (رئيس الجلسة)، في محاور ثلاثة كبرى: معيارية العلوم الاجتماعية، توصيف العالم الذي نعيش فيه، كيفية الخروج من الاستقطابات العميقة والعنيفة.
ينطلق ساري حنفي من الجدل الداخلي لعلم الاجتماع حول المعيارية؛ فعلم الاجتماع كما تصوّره أوغست كونْت ودوركهايم وماكس فيبر اختصاص علمي يستقي شرعيته ووضعيته من مجموعة ضوابط إيبستيمولوجية (وصفية – مفاهيمية - تفسيرية)، وحتى يُضفي على القوانين التي يتمّ كشف النقاب عنها طابع الثبات والشمول، يجد عالم الاجتماع نفسه في وضع من عليه أن يؤكّد بشكل منتظم لا معياريته. إلاّ أنّ النَفَس النضالي الذي يسكن السوسيولوجيا، وخصوصا السوسيولوجيا النقدية، كما أكّد مايكل بوراوي، يجعل أسسه، سواء الضمنية أو الواضحة تتسم بالمعيارية.
يقدّم حنفي، منذ البداية، توصيفا للعالم الذي نعيش فيه، ويُطلق عليه تسمية "الحداثة المتأخّرة"
ومن هذا المنطلق، لا يجد حنفي تفسيرا لحرص علماء الاجتماع على إخفاء معياريتهم، خصوصا وأنّ علم الاجتماع اتّجه، منذ ستينيات القرن الماضي، يساراً، في حين اتجه السوق يمينا. ذلك أنّ التفكير السوسيولوجي يعني التفكير في قيم الناس وآمالهم ورغباتهم وهواجسهم من زاوية نظر مخصوصة (العدالة الاجتماعية - الصراع الطبقي - الجندر..) وهذا يفترض أنّ الباحث السوسيولوجي يتبنّى موقفا معياريا من تلك القيم، فالتحليل السوسيولوجي يبحث غالبا، من خلال الكشف عن هيمنة القوة القائمة وتسليط الضوء عليها ونقدها، عن إمكانيات تعزيز الحريات الفردية والجمعية. وفتح هذا التحليل على سؤال مهمّ طرحه حنفي: ما الذي يجعل المجتمع بحداثته المتأخّرة وبمظاهر أمراضه يسير في الاتجاه المعاكس لمعيارية علم الاجتماع؟
يقدّم حنفي، منذ البداية، توصيفا للعالم الذي نعيش فيه، ويُطلق عليه تسمية "الحداثة المتأخّرة"، ومن أهمّ سماتها: وجود اللا-مساواة والتفاوت الاجتماعي والهشاشة والإقصاء على أشدّه؛ وجود استقطاب هرمي في المجتمع؛ اتجاه الجمهور نحو اليمين إمّا تصويتيا (انتصار الأحزاب اليمينية في عدد من البلدان) أو تطبيق سياسات يمينية؛ وذكر حنفي مثال فرنسا حيث حمى الرئيس ماكرون العرب والمهاجرين من ماري لوبان، على حدّ قوله، في حين يقف وزير خارجيته في بعض القضايا التي تخصّ العرب والمهاجرين مواقف أسوأ بكثير من مواقف لوبان.
أنتجت المجتمعات تحت تأثير نيو- ليبرالية ومشاعرية من يسميهم حنفي "الليبراليين المُكْتَفُين بذاتهم". وهم يتوزّعون إلى سياسيين، وقادة نقابات عمّالية، ونشطاء حقوق الإنسان، وصحفيين، ومؤثّرين، ومدوّنين، وأكاديميين، وزعماء دينيين، وقادة منظمات أهلية ... إلخ. جميعهم أهمل صراع الطبقات وتجاهل مسألة اللامساواة.
من هم الليبراليون المكتفون بذاتهم؟
يعتمد حنفي لتوضيح هذه الفكرة بشكل أساسي على مشروع الفيلسوف الأميركي جان رولز (John Rawls) الذي ميز بين ليبراليتين، الكلاسيكية والسياسية. تتعلق الأولى بحقوق الفرد التي أصبحت تُنَمَّط في مجموعة نقاط: الحقوق الاقتصادية الموضوعة - حقوق إنسان - حريات مدنية وفردية - حرية الدين - حرية الصحافة - قيمة الاستقلال الفردي - حقوق مجموعات وأقليات. أمّا الثانية فهي تلك التي توصّل إليها رولز بسبب المأزق الذي بلغته فكرته حول تحقيق التوازن بين مبادئ المساواة الاجتماعية والاقتصادية من جهة، والحرّيات الفردية التي تعتمد على قيم الاستقلال الشخصي والازدهار الفردي من جهة ثانية، ("التعدّدية المعقولية" هي المتسبّبة في حالة عدم التوازن تلك)، ما جعله (رولز) يُطوّر الأسس الفلسفية والمنهجية لليبرالية وتوسيع مطامحها بتقديم "ليبرالية سياسية" تعتمد على احترام الأشخاص وطرائق عيشهم وتبريراتهم المعقولة لما يعتقدون أنّه خير. وعلى هذا الأساس، يصبح السؤال الكبير المطروح ليس كيف تحقّق الشعوب التوازن بين المساواة والحرّيات، بل كيف نحافظ على التنوّع ونبني تماسكا اجتماعيا وعيشا مشتركا؟ ويعني هذا إيجاد أساسٍ مشتركٍ من القيم والمبادئ يقوم عليه النقاش السياسي العام، ويُصنع على ضوئه القرار السياسي الذي يكون مقبولا لجميع الناس "المعقولين" في مجتمع حرّ، بغض النظر إن كانت وجهات نظرهم ليبرالية أم غير ليبرالية، دينية أم غير دينية، ويكون الشرط الوحيد تحقق معايير "المعقولية" (يؤكّد حنفي على أنّ المعقولية لا تعني العقلانية)، والتوصّل إلى ما يسميه رولز "العقل العمومي" لمجتمع ليبرالي وديمقراطي. وكان حنفي قد توسّع في هذه الفكرة في مقال نشره في صحيفة العربي الجديد بمناسبة استشهاد شيرين أبو عاقلة، (20/5/2022) بيّن فيه أنّه لا يتّفق كلّيا مع جون رولز لكنه يدعو إلى التفكر كيف يمكن الانطلاق الخلاق من هذه الأفكار النيرة وتبيئتها في واقعنا.
في كلّ مجتمع طرف مهيمن يفرض مفهومه للخير، ولا يقبل التفاوض مع الآخر؛ مثلا أغلب مجتمعاتنا العربية حُكِمت فترة طويلة بنخب علمانية
انتشار ثقافة الإلغاء
بسبب كلفة التوافقات المعقولة، نجد أنّ ليبراليين كلاسيكيين كثيرين ينأون بأنفسهم عن الليبرالية السياسية، بسبب كلفة تلك التوافقات؛ فيلجأون إلى عدم إثارة التصوّرات المختلفة عن الخير التي هي محلّ نزاع معقول. وهذا حسب حنفي ما يفسّر انتشار "ثقافة الإلغاء" التي من أبرز مظاهرها: عدم التسامح مع الآراء المعارضة؛ رواج التشهير العام والنبذ؛ الميل إلى حلّ قضايا السياسات المعقدة في يقين أخلاقي مطلق؛ نزعة المبالغة في السلام safetysm للسيطرة على أي ضرر يلحق بالزبائن.
وحتى يوضّح حنفي معنى "ثقافة الإلغاء" ينطلق من أمثلةٍ واقعيةٍ عايَنَها حول الاستقطابات المتعصبة داخل الحرم الجامعي في بعض الجامعات الأميركية، ويفسّر كيف أنّ الإلغاء الذي يمارسه بعض الأساتذة والعمداء داخل الفضاءات الأكاديمية الغربية تعتمد على نوعٍ من المبالغة في السلامة (عدم ازعاج الطلاب بمعنى التخفيف من الجدل). فهم من أجل السيطرة على أي ضرر يلحق بالزبائن (الطلبة) ينزعون نحو المبالغة في السلامة. ويذكر أنّه في عام 2021 تمّ استهداف أكثر من 111 أستاذا في الولايات المتحدة، بسبب آرائهم الحزبية أو السياسية أو الجنسية أو آرائهم ضدّ سياسات الجامعة. وأخذ شكل الاستهداف التحقيق أو تعليق الخدمة أو إنهاءها. كما ذكر أمثلة أخرى عن مظاهر ثقافة الإلغاء في فضاءاتٍ أكاديميةٍ غربية أخرى (أوروبا) حيث يتمّ إلغاء تظاهرات وملتقيات علمية والمطالبة بالمنع حين يتعلّق الأمر بقضايا لها علاقة مثلا بالصهيونية أو بالمهاجرين.
وأنتج هذا الوضع نخبا من الرأسماليين الرمزيين قليلا، وهم جماعيون للغاية (الحركات الإسلامية) لديهم مجال عام وخيرات يناقشونها، ونخبا من الرأسماليين الرمزيين فائقين: فردانيين للغاية. وهم أيضا لديهم مجالهم العام ومفهوم للخير يدافعون عنه. وقد وسّعت هذه النخب بنوعيها من مفهوم العدل وفرضت مفهومها للخير (عدم القبول بالمساواة في الميراث - عدم الترحّم على غير المسلمين/عدم القبول بإدراج فصل في الدستور ينصّ على دين الدولة - عدم القبول بارتداء البرقع أو الحجاب في المؤسّسات العمومية ... إلخ). ويوجد في كلّ مجتمع طرف مهيمن يفرض مفهومه للخير، ولا يقبل التفاوض مع الآخر؛ مثلا أغلب مجتمعاتنا العربية حُكِمت فترة طويلة بنخب علمانية. وأخذت تلك العلمانية مفهومًا عامًا يقوم على كيفية فصل السياسي عن الديني.
كان هذا توصيف حنفي لما هو موجود في مجتمعات كثيرة، بما فيها مجتمعاتنا العربية، حيث جرى إهمال قيمة العدالة الاجتماعية والإنصاف، وأصبح هناك اهتمام بالحقوق، ليس بمعني حقوق الإنسان، وإنما بمعنى سياسات الهوية: حقوق المرأة، حقوق السود، حقوق اللاجئين، حقوق المثليين ... إلخ. وكان هذا على حساب الصراع الرئيسي، وهو حسب رأي حنفي: صراع طبقي أي صراع بين عمّال ورأسماليين.
تبدو قوّة ما يطرحه ساري حنفي في فكرة الجمع بين العدالة، بمعنى المساواة المنصفة في الفرص للجميع من جهة، ومبدأ الحرية الشخصية والمساواة السياسية من جهة ثانية
في كيفية الخروج من الاستقطابات العميقة والعنيفة
على ضوء ما قدّمه من توصيف للعالم الذي نعيش فيه، ومن أمثلةٍ تستند إلى وقائع حقيقية تبيّن عُمق الفجوة بين معيارية علوم الاجتماع وتوجّهات الشعوب، يقترح ساري حنفي "علوم اجتماعية حوارية" تتوسّط الجدل داخل المجال العام، ويكون ذلك بناء على مشروع ليبرالي سياسي يوازن بين الفردانية والجماعاتية. علوم اجتماعية، على حدّ قوله، تعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية أولا وتخفف من سياسات الهوية وتحافظ على حقوق الإنسان الكونية، وتفتح المجال العام لجميع الناس؛ وأولا وقبل كلّ شيء، تعيد الاعتبار للإنسان بالتركيز على أهمية قيمة التعايش بين مختلف مفاهيم "الخير" داخل المجتمع.
ينطلق حنفي من مسلّمة مفادها بأنّ في كلّ مجتمع توجد مفاهيم مختلفة عن الخير؛ يُثار حولها نقاش بالمجال العام باستخدام مفاهيم عقل عمومي؛ يعني نستخدم تبريراتٍ تستوعب الجميع (مسلمين – مسيحيين – ملحدين – متديّنين - علمانيين). وتكون هذه التبريرات غالبا معقولة وليست عقلانية. ويضرب حنفي مثالا للتفاهمات التي تنتج عن الجدل المجتمعي الذي يدور داخل المجال العام ما حدث في تونس عام 2018 بشأن مسألة المساواة الجندرية في الميراث، فقد خفّف خروج الجدل إلى المجال العام، برأيه، من النزاعات الموجودة حول مفهوم الخير بين العلماني والمتدين.
خاتمة
تبدو قوّة ما يطرحه حنفي في فكرة الجمع بين العدالة، بمعنى المساواة المنصفة في الفرص للجميع من جهة، ومبدأ الحرية الشخصية والمساواة السياسية من جهة ثانية. غير أنّ هذا الطرح إلى جانب أنّه يضعنا في سياق أقرب للاشتراكية الأوروبية منه إلى الليبرالية السياسية، فإنّ التوزيع المتوازن للعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية يفترض وجود أجسام وسيطة متطورة وقوية ودولة أكثر تطوّراً وقوّة.
الفكرة المهمّة الثانية في طرح حنفي أنّ تحقّق مبدأي العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية لا يقتصر على فرض نظام ديمقراطي ودستوري، والديمقراطية، هنا، لا تعني حكم الأغلبية بل هي المساواة السياسية التي تقوم على فكرة أساسية مفادها أنّ المواطن شخصٌ اعتباري لديه القدرات لخوض حياة شخصية مستقلة وتعاون اجتماعي مُنصف. ويتولّد عن الفكرة الثانية سؤال المعقولية في التبرير العام التي تناولها رولز في كتابه "الليبرالية السياسية"، وكانت وراء تصورّه لمفهوم "العقل العمومي". وبحسب هذا الفهم، يجد أي خلاف معقول في العقل العمومي أكثر من إجابة واحدة معقولة، فكيف يقع التوافق بشأن إجابة واحدة معقولة في حالة وجود خلاف معقول؟
يمثّل الحلّ الذي يقترحه ساري حنفي جزءًا من مشروع فكري عن المعرفة والأخلاق والإلغاء، وعن كيفية الربط بين السوسيولوجيا والفلسفة الأخلاقية. لقد أراد أن يؤكّد أن مهمّة علم الاجتماع ليست فقط وصف العلاقات الاجتماعية وأفهمتها من أجل تقديم استنتاجات وتفسيرات للوقائع الاجتماعية، بل أيضا الاشتغال بها معياريا. وهو يرى أنّ هناك مسؤولية أخلاقية للتفكير السوسيولوجي، فالسؤال المحوري لعلم الاجتماع، حسب حنفي، هو كيف نتجاوز أمراض الحداثة المتأخّرة؟ وكيف يمكن، على الأرض، اختبار صلابة هذه الفكرة وواقعيتها أمام ما نعاينه من ترسّخ "ثقافة الإلغاء" في التصريحات السياسية لعلماء الاجتماع، وفي ممارساتهم اليومية؟ كيف نأمل في علوم اجتماعية حوارية، وهي لم تحسم مجادلاتها الداخلية؟