علمنة المؤسسة الدينية في إيران بعد الثورة
ظل عدم كفاءة مؤسسة التعليم والتعلم والدعوة الإسلامية عملياً، منذ بداية تعرف المسلمين علی أوروبا والحضارة الغربية الحديثة، هاجساً مركزياً لأهل الشؤون الدينية في العالم الإسلامي. كانت الهيئات التبشيرية المسيحية نشطة، ومنشغلة بالدعوة، في القرن التاسع عشر، في أغلب البلدان الإسلامية. وتأثيرها ونجاحها كانا غالباً بفعل تقنيات حديثة، مثل صناعة الطباعة، والاتصالات، والنقل الحديث، والأنظمة والمؤسسات التعليمية الحديثة.
كتب المؤرخ الإيراني، عباس أمانت، أنه، في زمن لم يتوفر حتی المصحف الشريف في بيوت عامّة الأسر المسلمة إلا بصعوبة، توزّع الهيئات التبشيرية كتيباتٍ معارضة للإسلام بكثرة ما بين الإيرانيين. كانت في أرومية في عام 1912، وحدها، 49 مدرسة مسيحية نشيطة! وفي سائر البلاد الإسلامية كانت الوتيرة مشابهة؛ منها أن المؤسسة التعليمية الحديثة في مصر في بداية القرن العشرين كانت تحت أيدي مبشّرين مسيحيين، بالكامل تقريباً، حيث يمتلكون في عام 1906، نحو 170 مدرسة ابتدائية، يتعلم فيها ما يناهز أحد عشر ألف تلميذ.
طبعاً لم يكن خافياً أمام أعين رجال الدين الإيرانيين تدهور الآليات التقليدية المستخدمة لصيانة إيمان المؤمنين وترويج "المذهب الحق" مقارنة بالنظام الكنسي المقتدر. ومع أن بعض رجال الدين التقليديين يقاومون التقنيات الحديثة أحياناً، إلا أن القسم الأعظم منهم يرون استخدامها الطريقة الوحيدة للحفاظ علی المذهب، وترويج المعارف الدينية ونشرها.
رفض رجال الدين التقليديون برامج الإصلاحات التي تخص النظام التعليمي للمدارس الدينية، والتي يطرحها أشخاص، مثل الخميني، وحدثت شجارات لفظية عنيفة بين الطرفين
كان النمو المتزايد للنزوع نحو المذهب في المجتمع الإيراني في العقود الوسطى للقرن العشرين ناتجاً، إلی حد ما، عن هذا القبول واستخدام هذه الفئة من الدعاة الدينيين الواسع تقنياتٍ، مثل الطباعة ومكبر الصوت والمذياع. مع هذا، لم تستقبل المدارس الدينية استقبالا مستحقا من توظيف المؤسسات والطرق الحديثة للتعليم، وقاومها غالبية رجال الدين. وكانت النتيجة أن يبقی نظام التعليم الرسمي للمدارس الدينية، بجانب كتبها الدراسية، بصورتها التقليدية والقديمة، حتی هذه العقود الأخيرة.
رفض رجال الدين التقليديون برامج الإصلاحات التي تخص النظام التعليمي للمدارس الدينية، والتي يطرحها أشخاص، مثل آية الله الخميني، وقد حدثت شجارات لفظية عنيفة مرات بين الطرفين، إلی أن ضرب الخميني كوب شايه علی الجدار في أحد هذه الشجارات، احتجاجاً علی معارضة آية الله البروجردي إصلاحات المدارس الدينية، ولم يشارك حتی في مراسم تشييعه، ونعلم أن البروجردي كان مرجعاً دينياً بلا منازع لعالم التشيع.
وخلافاً لرجال الدين التقليديين الذين يعتقدون بوقوع الفتن وغيبة الولي وكثرة العدو وقلة عدد المؤمنين، حسب الأدعية المشهورة للشيعة، ويرون المخرج منها الانتظار لظهور الإمام العادل، كان المجدّدون منهم راغبين في أن ينصروا المؤمنين بأيديهم أنفسهم، وهم يعتبرون أنفسهم ورثة الأنبياء ونوّاب الإمام المهدي، ويحلّون ما في الدين من عُقد. لهذا لم يخالطهم شك في استخدام الأدوات الحديثة للرقي بأداء تعليم الدين وترويجه، وغلبة المجتمع علی المدارس الضالة. لكنهم، ولتحدي الخصوم، وإبلاغ رسالة الدين إلی مخاطبين أكثر، وساحة جغرافية أوسع، هناك حاجة إلی زيادة عدد طلاب العلوم الدينية، بجانب تحسين الأداء في تعليمهم، وأيضاً رفع نوعية الدعوة وطرقها، ولا يكون هذا ممكنا إلا باستخدام شامل لمجموعة الأدوات والتقنيات والأنظمة الحديثة.
خلافاً لمقاومة غالبية التقليديين من رجال الدين لتحديث النظام التعليمي للمدارس الدينية، أسس رجال الدين المجدّدون مراكز تعليمية دينية عدة بصورة منفردة في قوالب حديثة
ولكن النقطة الهامة أن هذه الأدوات والتقنيات أُبدعت وصُنعت أولاً، وبالذات للمضي بالأهداف الدنيوية وتوسيع الحياة المادية والاقتصادية. ولا يتوافق استخدامها الشامل مع الروحية الأخروية للتشيع التقليدي. ومن خلال تعطش شديد لنجاة عدد أكثر وأكثر من المؤمنين أخروياً باتخاذ الأدوات الحديثة، تحوّل الاتجاه الأخروي للدين جذرياً، وأصبحت روح الدين في طي النسيان.
تحديث وروح جديدة
كان تحديث التعليم والتعلم والدعوة الدينية تلزمه أمور: أولاً، زيادة عدد الطلاب، وهي بذاتها منوطة بتوفير مصادر مالية واسعة، وحصيلتها تلوث بعض المجدّدين بالتجارة مع جميع ما يخلّف هذا الأمر من تبعات، أو التعامل السياسي مع الحكم بغية التمتع بالزبونية. ثانياً، اتخاذ الأنظمة المصغرة وعناصر النظام التعليمي المعاصر تجلب معها القيم السائدة عليها لا محالة؛ منها أن الهدف من التعاليم الدينية، والذي كان كسب رضا الله، والحصول علی المثوبة الأخروية تحول إلی اجتياز الوحدات الدراسية، وتسلّم الشهادات، والعثور علی وظائف حكومية. ثالثاً، الاعتماد علی القوالب الحديثة المتبعة لإبداء الآراء، فهذا أيضاً أدّی إلی توطين الرؤية العلمانية المنطوية في هذه القوالب، منها أن رجال الدين كانوا مجبرين علی اتخاذ لغة محايدة خالية من الهوية والقيم الإسلامية للتخاطب واستقطاب شريحة أوسع من الناس، وخصوصا الشباب الذين تمت تربيتهم في المؤسسات التعليمية الحديثة. والرابعة، سيطرة عقليةِ استعلاء المؤمنين مادياً ودنيوياً (في سباق مع الكفار للاستعلاء عليهم)، والتي كانت منوطة باستمرار السلطة السياسية لرجال الدين، وقد تم الحصول عليها بذبح قيم أخلاقية كثيرة.
خلافاً لمقاومة غالبية التقليديين من رجال الدين لتحديث النظام التعليمي للمدارس الدينية، فإن رجال الدين المجدّدين أسسوا مراكز تعليمية دينية عدة بصورة منفردة في قوالب حديثة. مدرسة حقاني من المؤسسات التعليمية الدينية الأولى في قم، والتي أسسها علي قدّوسي، محمدتقي مصباح اليزدي، أحمد جنتي، محمدحسين بهشتي، علي مشكيني، محمود طالقاني، ..، بهدف تطوير أداء النظام التعليمي الديني. وأنشأ بعض المجدّدين في المدرسة الدينية الشيعية معهد "در راه حق" (علی درب الحق)، والتي تحوّلت، فيما بعد، إلی مؤسّسة الإمام الخميني بيد مصباح اليزدي. وأسس رجال الدين المقربون من آية الله سيد محمد كاظم شريعتمداري "دار التبليغ"، والتي أصبحت فيما بعد حجر أساس "مركز الإعلام الإسلامي" في قم. كما وضع كل من الشيخ محمد رضا المظفر ومحمد باقر الصدر ومحمد جواد مغنية كتبا دراسية بالنمط الحديث في طريقهم إلی إصلاح المدرسة الدينية في العراق. وثمّة "المنطق وأصول الفقه" لمحمد رضا المظفر، و"حلقات في علم أصول الفقه" للصدر، من الكتب الدراسية المتداولة في المدارس الدينية حالياً.
لقد نفخ انتصار الثورة الإسلامية في إيران روحاً جديدة في جسم تيار تحديث الدين والمدرسة الدينية، وهي ثورةٌ كان رجال الدين المجدّدون والشباب من أنصارها وقادتها. حوّلت الثورة الإسلامية المجدّدين من رجال الدين إلی قوة لا منازع لها في المدارس الدينية، كما جعلت الموارد الوفيرة والمؤسسات القوية لحكومة حديثة ثرية في خدمة ترويج الدين والحياة المؤمنة. والحصيلة تحقيق أحلامٍ يحلم بها المجدّدون لعشرات السنين، وهي تعبئة الإمكانات الحكومية لإقامة مجتمع وحضارة دينية مثالية.
إجراءات المجدّدين
عمل المجدّدون عدة إجراءات، توردها هذه المطالعة سعياً إلى تفعيل مؤسسة التعليم والتعلم والدعوة الدينية. كانت بعض هذه الإجراءات قيد التنفيذ، كما سبق ذكره، منذ ما قبل الثورة، لكن الثورة زادت سرعتها ووسّعت نطاقها.
الأول، إنشاء مؤسسات تعليمية ذات طابعين: أكاديمي وديني؛ فلها قالب الجامعات الحديثة، لكن محتواها مزيج من الدروس الدينية والعلوم الإنسانية الأكاديمية الرائجة في الجامعة. من أهم هذه المؤسسات: جامعة الإمام الصادق، جامعة مفيد، معهد الحوزة والجامعة وجامعة باقر العلوم. يبدو أن المؤسّسين يتصوّرون أن المؤسسة الجامعية هي قالب وجسم بلا روح ومحايد، يمكن أن يُصب فيها أي محتوی، ومنه الدين، بحيث يمكن التمتّع بميزات المؤسسات التعليمية الغربية الحديثة من دون التأثر بمحتوياتها. وفي الحقيقة، كان الهدف الرئيس أسلمة العلوم الإنسانية الغربية، لكن الحاصل هو التلوين الإسلامي (رش لون الدين والمقدس) للعلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، وإخضاعها لاستخدام الدولة لها. ونتيجة شرعنة هذه العلوم التي تعتبر الآن إسلامية ترويجها الواسع، من دون أي مانع، ما بين العوام ورجال الدين معاً. إذا كان رجال الدين التقليديون يقبّحون الانشغال بهذه العلوم التي يطلق عليها "علوم لا تنفع" فيما مضی، فإن المجدّدين الآن يروّجونها بشكل واسع في المدارس الدينية، سعياً في ترويج الدين وتوسيع نطاقه. رجال الدين/ الأكاديميون (الملقبون بفضيلة الدكتور وهم يدرسون في المدارس الدينية والجامعات في الوقت نفسه) تغلغلوا في المؤسسات التنفيذية أيما تغلغل، وطبّقوا هذه الرؤية من الأسلمة في الدولة.
علی سبيل المثال، تحوّل النظام المصرفي المتبع في فترة حكم محمد رضا شاه بهلوي إلی نظام فقهي "إسلامي" باستخدام الحيل الشرعية والعمليات البهلوانية. كان المحتوی الشيء نفسه، لكن القالب والصورة تعرّضا للتعديل. وبالنتيجة، مُهّد الطريق لدخول جم غفير من الناس العاديين والمؤمنين فيه، والذين كانوا يعتبرون النظام المصرفي الملكي السابق ربوياً، ولا يستفيدون من الخدمات المصرفية. وقد جری ما يشابه هذه العملية في مجالاتٍ أخری. عدة تغيرات صورية في النظام التعليمي مثل: الفصل الجنسي، فتح الباب لحضور البنات في المدارس والجامعات بصورة مكثفة، وكانت أسر دينية كثيرة فيما قبل تمتنع عن إرسال بناتهم إلی المدارس.
يخطو المجتمع الإيراني خطوات جبارة في ثورة اجتماعية ومعرفية نحو التحديث، وتبعد عن الساحة الفكرية للتدين الأخروي الاتجاه يوماً بعد يوم
الثاني، نسخت المدارس الدينية أغلب البنی الإدارية والتعليمية الجامعية، ودخلت حيز التنفيذ بتعديلات. وخلافاً للسابق، حيث كانت المدارس الدينية مستقلةً عن الحكومة إدارياً ومالياً، ولها بنية غير متمركزة ومنفردة وغير متجانسة، جرت محاولات شاملة لتنسيق الأنظمة الإدارية والتعليمية للمدارس الدينية، وكذلك تبعيتها للدولة. وإبّان انتصار الثورة، أسّس آية الله الخميني المجلس الأعلی للمدارس الدينية، والتي أصبح نطاق نفوذها في إدارة الشؤون اليومية للطلاب الدينيين أكثر فأكثر علی مرّ الزمان. في العقد الأول من الثورة، كان حضور مراجع تقليد يُعتبرون نظائر آية الله الخميني في المستوی العلمي، مثل آية الله الكلبايكاني مانعاً لتسرع وتيرة هذه التحولات إلی حد ما، وبعد رحيل المراجع الكبار، وفي فترة قيادة آية الله الخامنئي، أخذت التطورات سرعة أكثر، فقد أنشأ مركز إدارة المدارس الدينية في قم ومشهد وطهران وأصفهان، سعياً إلى التركيز الإداري للمدارس الدينية، كما تمركز تعليم الطلاب الأجانب في قالب مؤسستي "منظمة المدارس الدينية خارج البلاد" و"المركز العالمي للعلوم الإسلامية" اللتين اندمجتا فيما بعد باسم "جامعة المصطفی العالمية". ومن حيث البنی، أصبحت أغلب الأنظمة الأكاديمية المصغرة (مثل نظام الفصول، اختبارات نهاية الفصول وأمثالها) متبعة في المدارس الدينية. والأغرب أن شهادات جامعية ملائمة للمستوی الدراسي أُعطيت لرجال الدين، بهدف تسهيل توظيفهم في الجامعات والمؤسسات الحكومية.
ولكن المجتمع الإيراني، في الوقت نفسه، يخطو خطوات جبارة في ثورة اجتماعية ومعرفية نحو التحديث، وتبعد عن الساحة الفكرية للتدين الأخروي الاتجاه يوماً بعد يوم. ومن ناحية أخری، لا تقوم إدارة الشؤون اليومية للحكومة الحديثة علی أسس شرعية دائماً، ما أدّی إلی ظهور هوة مزدوجة ما بين الثقافة ومطالبات الشارع والدين من جهة، وما بين إدارة الحكومة والشريعة من جهة أخری، وكان الدين والشريعة هو المُرغم علی التراجع، وتوفيق نفسه علی المطالبات العامة، أو متطلبات إدارة الحكومة في غالب الحالات. مثالا، منذ بداية الثورة أصدر الفقهاء المقرّبون من الحكومة فتاوی بشأن حلية الموسيقی والشطرنج وأمثالهما، وكُلفت مؤسسة، تُدعی مجمع تشخيص مصلحة النظام، بالنظر في عدم التوافقات ما بين الشرع ومتطلبات الحكم. وعلی سبيل المثال، لزيادة القبول العام للأحكام الشرعية ما بين الشبان، أُجبر متولو الشؤون الدينية علی استخدام أدلة نفعية (utilitarian) من قبيل: الحفاظ علی الحجاب الشرعي مفيد لإحكام الأسرة، أو الكحول ضارّة للسلامة.
المصطلحات والعبارات ذات الشحنة القيمية المستخدمة تقليدياً تجعل من المستحيل إمكانية إقامة العلاقة مع شريحة واسعة من المجتمع
ومن الطريف أنهم أُرغموا علی تعديل اللغة الدينية إلی لغة علمانية، فـ"شرب الخمر"، وهي عبارة محملة بالقيمة بالشدة، ولها جذور في الشريعة والعقلية الإسلامية، وملازمة للذنب والعقوبة الإلهية والغضب الإلهي لمن تربّی في المناخ الثقافي والاجتماعي والديني، تحولت هذه العبارة إلی "المشروبات الكحولية"، وهي عبارة محايدة، ومن دون أي تقييم مسبق أخلاقياً ودينياً. وسببه واضح: المصطلحات والعبارات ذات الشحنة القيمية المستخدمة تقليدياً تجعل من المستحيل إمكانية إقامة العلاقة مع شريحة واسعة من المجتمع، كما عدّلت الشرطة عبارة "دورية الإرشاد" إلی "مشروع الرقي بالأمن الاجتماعي" بسبب مشابه.
أدّت محاولات توسيع نطاق نفوذ الدين، وتحميل النمط الديني للحياة علی قسم أوسع من السكان، وکذلك انشغال رجال الدين بالإدارة التنفيذية اليومية للبلاد، إلی ترقيق الأحكام الشرعية وعصرنتها، أو علی حد تعبيري إلى إسلام معلمن أو "الإسلام الهلامي" (Islamlite)، وهو إسلام لا مشكلة له غالباً مع المؤسسات الرئيسة للعالم المعاصر، وقد أخذ لونها، ويُحتفظ فيه ببعض المناسك الصورية، والبادية للعيان بشدة، مثل الحجاب والحظر من انتهاك حرمة رمضان، وما شابهها لجلب رضا المتدينين فحسب. تكمن هذه المفارقة بالذات في الدعوة نفسها إلی الدين في العالم الحديث (وحتی عالم ما قبل الحداثة). السعي في توسيع الدين يفضي إلی تفريغه من المحتوی. وقد تطرّق الكاتب إلی هذا الموضوع بتفصيل أكثر في مقالة "علمنة الفقه في إيران المعاصرة" المنشورة أخيراً في كتاب "Deconstructing Islamic Studies" بإشراف كل من مجيد دانشكر وأيرون هيوجز، والذي نشرته جامعة هارفارد.