عظات شيرين أبو عاقلة
تحتشد عظاتٌ جليلةٌ غزيرةٌ في تطويق الفلسطينيين شهيدتَهم شيرين أبو عاقلة بأكاليل مهيبةٍ من الحبّ المقرون بأحزانٍ عظيمةٍ أحدثها فيهم فقدانُها الأليم، في جريمةٍ إسرائيلية موصوفة، وذلك في تقديرٍ كبيرٍ منهم لعطائها الإعلامي الذي اتّصف بمهنيةٍ وكفاءةٍ عاليتيْن، في نقلها على شاشة "الجزيرة" كفاح شعبها وصمودَه، وصلف المحتلين واعتداءاتهم اليومية، 25 عاما. وأولى هذه العظات أن لا شيء أبدا يُنازع وحدة الفلسطينيين وائتلافهم عندما يعتنقون مناهضة الاحتلال ونبذه. وأنهم، أيضا، لم يتعبوا، منذ أكثر من مائة عام، من تظهير أيقوناتٍ منهم وبينهم، أخلصت لفلسطين وتفوّقت وأبدعت. وما شوهد في جولات جثمان شيرين في غير مخيمٍ وبلدةٍ ومدينةٍ فلسطينية، وصولا إلى وداعها الأخير في القدس، دلّ، من بين كثيرٍ دلّ عليه، على أن الزميلة القديرة لم تكن مراسلةً لمحطّةٍ فضائيةٍ شهيرة وحسب، وإنما كانت صاحبة دور وطني ثقيل القيمة، استحقّت عليه ما محضَه لها شعبُها من مشاعر الخسران لغيابها في جريمة الإعدام الإسرائيلية الخسيسة، وما كرّمها به في أكثر من تشييعٍ رسميٍّ وشعبي، وما نثره عليها من عبارات الاعتداد بها، لتصبح واحدةً من رموز الشعب الفلسطيني الموحّد في كل فلسطين وفي الشتات، لا سيما أن الموجة الواسعة في كل أركان الأرض من التنديد الساخط بجريمة قتلها عكست الاعتبار الخاص لجدارتها في عملها صحافية، لم تنطِق يوما بغير الحقيقة، وبغير المعلومة المؤكّدة والموثّقة بالصورة، فكانت، عن حقٍّ وحقيق، من عناوين الصحافة المسؤولة بكل حرفيةٍ، ليس في وطنها المحتل فقط، بل في العالم كله، فاستحقّت من المتحدّثة باسم البيت الأبيض وصفها "أسطورة" صحافية. ولذلك، ظلّ من طبيعيّ الأمور أن تكون شيرين أبو عاقلة اسما مزعجا لدولة الاحتلال، وأن ينغّص عملُها، وهي المقدسية التلحمية المجدّة المثابرة، أوهام إسرائيل عن نفسها.
وعندما تحشد شرطة الاحتلال قوةً مسلحةً، مجوقلةً بالخيول والهراوات والرصاص والقذائف، لفرض شروطِه على موكب شيرين إلى الكنيسة من المستشفى في القدس، وتعتدي على النعش وحُماته المشيعين، وعندما تستنفر في المدينة القديمة المحتلة، من أجل أن تحرم الفلسطينيين من إحياء يومٍ وطنيٍّ جامعٍ، وبين ظهرانيهم ضيوفٌ عديدون، في تشييع ابنتهم الأيقونة حقا إلى مثواها في تراب المدينة المقدسة، عندما يقترف الاحتلال فعلته هذه، فإنه يؤكّد المؤكّد عن وحشيّته التي لا سقوفَ لها، وعن انعدام احترامه جلال الموت ومهابة الفقد، غير أن الفلسطينيين تحدّوه بشجاعتهم المعلومة، وأفشلوا تدبيره، عندما استطاعوا أن يصنعوا يوما مجيدا لهم، اتّحدوا فيه، وقُرعت فيه أجراس كل كنائس القدس في ميقاتٍ واحد، وأمكن لهم أن يُشاهدهم العالم شعبا يُبدع المثل والمثال. ولئن تذكّر زملاء المهنة جنازات الشهيد القائد ياسر عرفات والشاعر محمود درويش وقبلهما المناضل فيصل الحسيني، فإنهم لا بد لاحظوا ما حضر مُضافا في جنازة شيرين، في القدس التي سطّرت، نهار أمس، جديدا من فعل البقاء والصمود والمقاومة والتحرير، وقبل ذلك في مخيم جنين ونابلس ورام الله. وقد صدَق تماما قول زملاء لشيرين إنها في جنازتها أنهت الانقسام الفلسطيني، المخزي في أقل نعوته. وفي الوُسع أن ينكتب هنا إنها أيضا أجهزت على أوهام رهان عواصم إقليمية على صناعة رئيسٍ فلسطيني من هذه الفئة أو تلك، يبيع ويشتري ويساوم ويقايض ويتنازل. وعندما تُخبرنا جيفارا البديري إن صديقتها وزميلتها أخبرتها غير مرّة إن من أمنياتها أن تغطّي انتهاءً كاملا للانقسام الفلسطيني، فإن الواحد منا يتمنّى على أهل هذا الشأن أن يبادروا إلى الإفادة من الزخم الكبير الذي أحدثته فاجعة المصاب الثقيل، فيذهبوا إلى إنجاز ما اشتهته شيرين أبو عاقلة، لا سيما أنهم ارتكبوا، نحو عقدين، من التلكؤ واصطناع العراقيل واختلاق أسباب التنائي والتباعد ما قد لا يصير في وسعهم أن يضيفوا إليها جديدا.
ستكون إساءةً بالغةً إلى روح شيرين، رحمها الله، وإلى عظاتٍ ثمينةٍ أهدْتها إلى شعبها في ارتقائها إلى العلا شهيدة، أن يمرّ هذا التضامن الدولي الوفير مع عائلتها، ومع الأسرة الإعلامية الفلسطينية، وكذا الشجب العالمي لجريمة اغتيالها، من دون البناء عليه، واستنهاض محمولاتِه باهظة الأهمية في معركةٍ شرسةٍ ضد دولة الاحتلال في منابر الإعلام والدبلوماسية والكفاح السياسي، فهذه لحظةٌ نادرةٌ وخاصةً، يجوز الزعم إنها كونية، سيصيرُ بؤسا فلسطينيا على بؤسٍ مقيمٍ إن ضاعت، بافتراض أنها محض حالةٍ عاطفيةٍ عابرة.