عشرون عاماً وأنا أبحث ..
أم كلثوم غنّتها "عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرض وعن هوية". أما علي الحجّار فقد عدّل عدد السنوات، فقالها "خمسين عاماً... ". ثم غنّتها مي نصر لتضيف عشرة فتقول "ستين عاماً...". الآن يمكن أن نقول "سبعين عاماً". مع ذلك، بقدر ما تثير هذه الأرقام الخيبة تشير إلى الإصرار على تبنّي هذه القضية، ولعلّ قضية في العالم لم تشغل الرأي العام كما فعلت القضية الفلسطينية التي كانت محط تعاطفٍ من كلّ أنصار الحق والعدالة على سطح الأرض، وتشابكت خيوطها إلى درجة أنّه لم يبقَ شعبٌ لم يساهم على مذبحها وإن بقطرة من الدم. وبعض القوى والمنظمات الأجنبية انخرطت فيها في شكل جماعات، كما فعل يابانيون وألمان وآخرون، إضافة إلى الشعوب العربية التي لم تلهب مشاعرها قضية كالقضية الفلسطينية. لكنّ تراكم الخيبات شكّل مادة دسمة لبعض الجهات والقوى، لتؤسس رأياً عاماً سلبياً من القضية الفلسطينية. ومن أجل ذلك، استخدمت تفاصيل كثيرة، ربما أهمها نقل المسؤولية عن ظهر الفساد الذي ينخر النخاع الشوكي لمعظم الأنظمة العربية إلى ظهر القضية الفلسطينية، باعتبار أنّ سبب بؤسنا - نحن الشعوب - هو تخصيص 75 في المائة من ميزانياتنا للجيوش التي أوكلت إليها مهمة تحرير فلسطين. وبالتالي، فإنّ تلك الميزانية تؤخذ من طعام هذه الشعوب ورفاهيتها، وهو كذلك فعلاً، لكن، هل القضية الفلسطينية هي التي تسرق هذه اللقمة من فم المواطن العربي؟
يؤكد التاريخ أنّ القضية الفلسطينية بريئة من هذا الافتراء جملة وتفصيلاً، فهذه الجيوش لم توكل إليها مهمة تحرير فلسطين يوماً، لأنّ دول المواجهة نفسها مستهدفة بالمشروع الصهيوني كفلسطين تماماً. بكلام آخر، هي إن اشتركت في معركة، فإنّ هذه المعركة تعتبر دفاعاً عن نفسها. وإذا تجاوزنا هذا التفصيل، لن نجد أنّ هذه الجيوش قد خاضت حرباً في فلسطين سوى حرب الإنقاذ (1948) التي أوكلت قيادتها سياسياً إلى الملك عبد الله، وعسكرياً إلى غلوب باشا، ضابط الاستخبارات البريطانية، الدولة التي أعطت وعد بلفور، فتصوّروا جدّية الموقف العربي من القضية الفلسطينية في هذه الحرب. الحرب الأخرى (يونيو/ حزيران 1967) خاضتها إسرائيل من طرف واحد تقريباً على أراضي الدول العربية المجاورة، ولم تحصل دفاعاً عن فلسطين. أما الثالثة (أكتوبر/ تشرين الأول 1973) فقد كانت من أجل استرداد الأرض التي احتلت في حزيران. وبالتالي، يمكن القول إنّه لا علاقة لفلسطين بها، وهذا يجعلنا نقول بثقة إنّ جيوشنا لم تحارب من أجل فلسطين. أما في ما يخص الميزانية فيكفي أن تنظر إلى طعام الجندي العربي ولباسه، وإلى أملاك كبار الضباط في الجيوش العربية وحساباتهم، لتعرف إلى أين تذهب الـ 75 في المائة من الميزانية المتحدث عنها، والتي في كلّ الأحوال لا يُصرف منها على القضية الفلسطينية قرش.
ضمن عملية إيجاد رأي عام مناهض للحقوق الفلسطينية أيضاً، يُستخدم تفصيل آخر، أنّه لم تكن هناك دولة اسمها فلسطين، وبالتالي لا حق للفلسطينيين بالمطالبة بدولة، على الرغم من أنّ المعلومات تشير إلى وجود دولة اسمها فلسطين، وأنّ غولدا مائير كانت تحمل جنسيتها. وهنا يمكن أن نسال هؤلاء: هل كانت هناك دولة إسرائيل؟
لا بدّ من الإشارة إلى فشل الحركات الثورية التي تشكلت من أجل تحرير فلسطين، وبذلت دماء كثيرة. أضف إلى ذلك احتكار بعض القوى موضوع المقاومة، ومنع الآخرين عنها، واستغلال القضية بمآربها السياسية. ذلك كلّه تم الشغل عليه إعلامياً من جهات مختلفة، أدى فعلاً إلى إشاعة شعور بارد تجاه القضية الفلسطينية. كما أنّ مصائب الشعوب العربية الأخرى لعبت دوراً كبيراً في لفت الأنظار بعيداً عن القضية الفلسطينية، لكنّ أيّ مشكلة في الحياة لا تنتهي إلا بانتفاء أسبابها، والقضية الفلسطينية لم تنتفِ أسبابها لكي تنتهي. يتم قمعها ويتم إخمادها عنوة، لكنّ ذلك يزيد في أسباب تفاقمها. ولهذا ستظل تنفجر وتعود إلى واجهة التعاطف والاهتمام، وسيكون لها في النهاية انفجار كبير يتم فيه وضع النقاط على الحروف.
ليس الموقف من القضية الفلسطينية قومياً ولا دينياً، إنّه قبل أيّ شيء موقف أخلاقي، حتى لو كانت فلسطين جزيرة في المحيط.