عزمي بشارة يتقصّى الحقيقة والعدل في فلسطين .. بالإنكليزية

23 مايو 2022
+ الخط -

تناولت كتبٌ لا حصر لها قضية فلسطين من منظوراتٍ متنوعة، قدّم عديد منها مساهمات نوعية في حقل الدراسات الفلسطينية، غير أن الكتب المرجعية التي تطرح إجاباتٍ شاملةً لأبعاد الحالة الفلسطينية وتعقيداتها نادرة. ومن هذه الكتب "فلسطين: مسائل في الحقيقة والعدل"، (Palestine .. Matters of Truth and Justice) عن Hurst Publishers في لندن، للمفكر الفلسطيني عزمي بشارة. وهو يعكس تجربة كاتبه الكفاحية الممزوجة بعمق فكري نقدي ونظريّ. وتتمثّل أهميته وقيمته المرجعية بقدرته على الإحاطة بشمولية القضية الفلسطينية، وتاريخها وحاضرها، ضمن قالب تحليلي رصين في تفكيك تشابكاتها المحلية والإقليمية والدولية، فضلاً عن تقديم أفكار استراتيجية لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أساس مبدأ المقاومة المنظمة.
يستهل الكتاب بموقف سياسي - أخلاقي، مشدّداً على تطبيق مبدأ "العدالة" شرطاً أساسياً للتعويض عن المظالم المتراكمة تاريخياً، بدلاً من تقديم حلول سياساتية مبتذلة. ويتناول مفهوم العدالة بأسلوبٍ سلسٍ بعيداً عن التجريد، ويستند، بشكل أساسي، إلى التوازن بين مبدأين أساسين للعدالة: المساواة والحرية. ومن البديهيّ القول إن المبدأين يشكلان نقيضاً للصهيونية ودولة إسرائيل وبناها المؤسساتية المجتمعية. فمن ناحية، يشير مبدأ الحرية إلى تحرّر الفلسطينيين من أغلال السيطرة الاستعمارية وتطبيق حقهم في تقرير المصير. وتؤشّر المساواة على إقرار حق المواطنة غير المنقوصة، وضمان الحقوق الفردية والجماعية، لكل المقيمين على أرض فلسطين الممتدة من النهر إلى البحر.
يوظّف هذا الكتاب أدوات تحليلية متعدّدة ومركّبة، مستقاة من إطار الاستعمار - الاستيطاني، لفهم خصوصية الطبيعة الاستعمارية - الاستيطانية لدولة إسرائيل. يتميز المشروع الصهيوني بولادته المتأخرة، مقارنةً بالتجارب الاستعمارية الأوروبية التي سبقته بقرون، حيث تأسّست دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين، الذي صادف انتهاء الحقبة الاستعمارية المباشرة واستقلال الدول المستعمرة سابقاً. ساهم هذا الواقع الزماني بعرقلة مشروع الاستعمار - الاستيطاني، من ناحية عدم قدرته على تطبيع نفسه أو تأصيلها، كما جرى الحال في المستعمرات الأنغلوسكسونية التي انتهى بها المطاف إلى تأسيس دولٍ على أنقاض السكان والثقافة الأصلانيين. أضف إلى ذلك أن إسرائيل بنفسها عرقلت تطبيع نفسها بسبب اندفاعها نحو فرض سيطرتها الاستعمارية على كل فلسطين وسكانها العرب، وهو ما أنتج مزيجاً من نسخٍ متعدّدة من أنظمة الفصل العنصري والاستعمار - الاستيطاني. ويستنتج بشارة أن إسرائيل تجمع ما بين نمط الفصل العنصري الذي ساد في حقبة حكم البيض في جنوب أفريقيا والاستعمار - الاستيطاني الفرنسي في الجزائر. وتتسق هذه الخلاصة مع أفكار بشارة الاستشرافية التي عبّر عنها في مجموعة من المساهمات في بدايات عملية أوسلو في التسعينيات، خصوصاً في المقابلة التي أجراها معه الصحافي الراحل غراهام آشر لمجلة Race & Class عام 1995، وتوقع فيها أن التوسع الاستيطاني المصاحب للفصل الديمغرافي وحصر الفلسطينيين في مناطق مغلقة عسكرياً قد ساهم في دفع عملية البنتستنة (نسبة إلى البانتوستان، أو كانتونات السود في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا).

يصوغ بشارة مصطلح "السكان الأصلانيين ذوي الوعي الوطني"، لمراعاة الحالة الفلسطينية وتميزها عن حالات السكان الأصلانيين الأخرى

يولي الكتاب أهميةً خاصةُ لنكبة عام 1948، بوصفها ركيزة أساسية لفهم جذور القضية الفلسطينية، ويناقش، بشكل موسّع، القضايا والأحداث التي قادت إليها، وتخلّلتها، وما نتج منها. لكن أهم ما يلفت الانتباه في تحليله نكبة الفلسطينيين عام 1948 تسليطه الضوء على السرديات المرافقة، بوصفها أكثر ما يوضح حدّة التناقضات بين المستعمر والمستعمر، ودورها في تشكيل طبيعة الصراع في فلسطين. ومن السرديات الكبرى التي تناولها الكتاب مسألة الحق التاريخي في الأرض، وترجمتها إلى انتماء قومي وصكّ ملكية سياسية. يفند الكتاب باحترافية السردية الصهيونية القائمة على التلاعب بالأساطير التوراتية لغاياتٍ سياسية استعمارية، مثل الادّعاء بملكية اليهود لأرض فلسطين استناداً إلى وعد رباني، أو الزعم أن يهود اليوم ينحدرون في أصولهم من المجموعات العبرانية القديمة.
ارتبطت فكرة الحق القومي لليهود في فلسطين بنشأة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من ذلك، لم تحظ الدعوة الصهيونية بشعبيةٍ في أوساط النخب اليهودية في أوروبا، الذين هيمنت على ثقافتهم السياسية أيديولوجيا سياسية تنويرية عُرفت بالهسكلاه، دعت إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم ودولهم في أوروبا على أساس مبادئ العلمانية والمواطنة. ولكنَّ إقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني المزدهر، وتفاقم اللاساميّة في أوروبا وإغلاق الولايات المتحدة باب الهجرة أمام يهود العالم، شكلّت كلّها حوافز في إعادة توجيه يهود العالم نحو تبنّي الصهيونية.
وجود العرب الفلسطينيين على أرض فلسطين بشكل متواصل قروناً طويلة، صقلته تفاعلات ثقافية وحضارية وتاريخية مركّبة، نتج منها تشكّل الشخصية الفلسطينية العربية، التي أدركت هويتها الحديثة قبل قيام إسرائيل. ولأنّ هذه الحقيقة غير قابلة للنقض، لا يجد الكتاب أهمية في محاولات بعض الباحثين الفلسطينيين لربط الهوية الفلسطينية العربية بالأقوام التي عاشت قديماً في فلسطين، مثل الكنعانيين أو غيرهم، مشدّداً على أن الأصول القديمة ليست ذات صلة بالهويات السياسية الحديثة. ودراسات عديدة تطلق مصطلح "الأصلانيين" على الفلسطينيين، للإشارة إلى أنهم أصحاب الأرض، وهو مصطلح دارج لوصف السكان الأصليين في قارّات العالم الجديد التي تقاسمتها دول الاستعمار - الاستيطاني الكلاسيكي. موضوعياً، يعاني هذا المصطلح من إشكالات منهجية، بسبب وجود فوارق جوهرية بين الفلسطينيين (وهويتهم الوطنية ونضالهم الساعي للتحرّر) والسكان الأصلانيين الذين باتوا مواطنين في دولهم ويقتصر نضالهم على مطالبات بالحقوق الثقافية. يصوغ بشارة مصطلح "السكان الأصلانيين ذوي الوعي الوطني"، لمراعاة الحالة الفلسطينية وتميزها عن حالات السكان الأصلانيين الأخرى.

ولّد التلاعب الغربي بالمسألة اليهودية الوهم أن معاداة السامية مشكلة عربية بحتة

فلسطين ما بين "المسألة العربية" و"المسألة اليهودية"
يقدّم كتاب "فلسطين .. مسائل في الحقيقة والعدل" أطروحةً أصيلةً في فهم تعقيدات القضية الفلسطينية، مرتكزةً على تشابك "المسألة اليهودية" في أوروبا مع "المسألة العربية"، والأخيرة تمثل إطاراً معرفياً مفصلاً كان قد قدمه بشارة في كتب وأبحاث ومطالعات منشورة له على مدار العقد الأخير. ساهم تقاطع كلتا المسألتين بتحويل القضية الفلسطينية إلى ساحة خصبة للتدخلات والتلاعبات والتحالفات وتسوية الحسابات بين القوى الإقليمية والغربية المتنافسة، تحت مبرّرات مختلفة.
مثلت المسألة اليهودية عبئاً أوروبياً خالصاً، جرى التخلص منه بتصديره إلى فلسطين والمنطقة العربية، وبالتالي إنقاذ الغرب من مشكلاته الداخلية على حساب تطلعات العرب القومية. فمثلاً، لم يساهم الهولوكوست في تعزيز الهدف الصهيوني بإقامة دولة يهودية في فلسطين فحسب، بل سلَّح الدولة الإسرائيلية بأدواتٍ دعائيةٍ تضليليةٍ باعتبارها الممثل الوحيد لمحنة اليهود التاريخية. لقد ولّد التلاعب الغربي بالمسألة اليهودية الوهم أن معاداة السامية مشكلة عربية بحتة، وبرّر الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وأخيراً أخرج الغرب نفسه من دائرة اللوم وتحمّل المسؤولية التاريخية.
من ناحية أخرى، يقصد بالمسألة العربية مسار العجز العربي في بناء الدولة - الأمة، بشكليهما الوطني والقومي، وما تخلّله من أزماتٍ بنيويةٍ في مؤسسات الدولة والمجتمع، وتوغّل السلطويات والجيوش، وفشل المواطنة، وتغلّب النزعات ما تحت الوطنية، كالطائفية والعشائرية، وتولد الصراعات المحلية والإقليمية. وكان لذلك كله بالغ الأثر في حرف البوصلة العربية نحو فلسطين تجاه تغليب المصالح والحسابات الخاصة للسلطويات العربية. وتقسم هذه السلطويات إلى اتجاهين، يمثل أحدهما الاتجاه المعتدل نحو إسرائيل والآخر المعادي لها. استغلّ التيار المعتدل القضية الفلسطينية، عبر تقديم تنازلات عن الحق الفلسطيني لأغراض تقوية علاقاته مع الغرب وتحفيزه على غضّ النظر عن انتهاكات هذه الأنظمة حقوق الإنسان. أما التيار المعادي لإسرائيل، فيستغلّ تأييد القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل للقمع الداخلي والقضاء على المعارضين واتهامهم بالعمالة للخارج.

يجادل بشارة بأن نشوء السلطوية العربية وتطوّرها كان ملازماً لتأسيس دولة إسرائيل

وقد أثر تصدير المسألة اليهودية، وتجلياتها في إقامة دولة اليهود، على المسألة العربية بشكل مباشر وكبير. يجادل بشارة بأن نشوء السلطوية العربية وتطوّرها كان ملازماً لتأسيس دولة إسرائيل، وبالفعل، يمكن ملاحظة أن السلطويات كانت مصدر استقرار لإسرائيل، وهذا يفسّر انزعاج إسرائيل من الثورات العربية ودعمها معسكر الثورات المضادّة. يذهب بشارة إلى أبعد من ذلك بقوله إن "ظهور إسرائيل والنكبة الناتجة كانا أهم تجسيد للانقسام والصراع الإقليمي، وكذلك أكبر عقبة أمام الوحدة العربية في المشرق العربي وبين المشرق والمغرب" (ص 101).

حرب 1967
ساهمت نتائج حرب عام 1967 التي شنتها إسرائيل، باختيارها، على الدول العربية، وأدّت إلى احتلال الأجزاء المتبقية من فلسطين وشبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، في تعميق أزمة المسألة العربية، وأنتجت تحوّلاً في كيفية تعامل الأنظمة العربية مع القضية الفلسطينية. وفي الواقع، لم يساعد انتصار إسرائيل في حربٍ سهلةٍ لم يكن العرب مستعدّين لها في إقناع الولايات المتحدة باعتبار إسرائيل حليفاً استراتيجياً في المنطقة فحسب، بل واستطاعت كذلك إقناع نسبة متزايدة من يهود العالم في الهجرة إلى إسرائيل، كما أنتجت تحوّلاً متسارعاً في مجتمع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين نحو الأصولية القومية - الدينية.
في المقابل، أدّت الهزيمة العربية إلى انهيار المشروع القومي العربي، وتوجّه الدول العربية نحو تعميق القُطرية، وتهميش التطلعات العربية الجماعية في تحرير فلسطين التي سادت ما قبل 1967، وتقزيم الصراع العربي - الإسرائيلي إلى نزاعات حدودية بين كل دولة عربية على حدة وإسرائيل. ترسّخ هذا التوجه في مسارات اتفاقيات السلام المنفردة مع إسرائيل، الذي افتتحته مصر في اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، وتلاها لاحقاً الأردن في اتفاقية وادي عربة 1994، والمفاوضات السورية - الإسرائيلية في التسعينيات.
مهّدت هزيمة العرب عام 1967 أيضاً لانطلاق نسخةٍ أنشط من الحركة الوطنية الفلسطينية، أخذت زمام الأمور، وحوّلت المخيمات الفلسطينية في دول الجوار إلى مراكز للعمل الوطني. في هذا الصدد، برزت منظمة التحرير إطاراً مؤسساتياً جامعاً مثل الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة. بدا هذا الإنجاز الفلسطيني بمثابة مبرّر للأنظمة العربية للتخلص تدريجاً من عبء القضية الفلسطينية، التي أصبحت، مع الوقت، مشكلة فلسطينية خالصة، وجب حلها في المناطق المحتلة في الضفة الغربية وغزة. تكيفت قيادة المنظمة تدريجاً مع هذا التوجه، بتبنّيها منطق "النزاع الحدودي" بدلاً من النضال التحرّري. وبدأ هذا المسار مع إعلان هذه القيادة "برنامج النقاط العشر" في 1974، استراتيجية تسعى لبناء "سلطة مقاتلة" على أي جزءٍ محرّر في فلسطين. أصبح هذا البرنامج، وما واكبه من تنازلات، الأرضية التي استندت إليها فكرة قيام السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو، فبعد خروج منظمة التحرير من لبنان، والأحداث التي أعقبتها، مثل انهيار الكتلة الاشتراكية والغزو العراقي للكويت واحتكار الولايات المتحدة ملفات المنطقة، أصبحت صيغة "الأرض مقابل السلام" المرجع الأساسي للمسارات التفاوضية بين إسرائيل ومنظمة التحرير والدول العربية، وهو الهدف الذي سعت إليه إسرائيل بشنّها الحرب منذ البداية.

أوجدت اتفاقيات أوسلو أرضية خصبة للانقسامات الفلسطينية - الفلسطينية، سياسياً وأيديولوجياً ومناطقياً واجتماعياً وطبقياً

نحو استراتيجية تحرّرية جديدة
هناك اتفاق عام بشأن التأثيرات المدمرة لعملية أوسلو على الحركة الوطنية الفلسطينية، ولكن الأسباب تخضع لتأويلات مختلفة. يرصد عزمي بشارة "ثلاثة أخطاء تاريخية" ارتكبتها قيادة منظمة التحرير: 1) تقديم تنازلات سياسية كبيرة رغبةً في الحصول على اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، مثل الاعتراف بدولة إسرائيل، وشجب ما تعتبره إسرائيل إرهاباً، وإجهاض الانتفاضة الأولى. 2) الشروع في بناء سلطة فاقدة للسيادة تحت بنية الاستعمار - الاستيطاني المستمر، وربط الأجندة الفلسطينية بأجندة الاحتلال والممولين الدوليين، وذلك لضمان استمرار شبكة المصالح للنخب السياسية والاقتصادية للسلطة. 3) تفكيك مختلف أشكال المقاومة، سواء بطابعها المسلح أو السياسي أو المدني.
أوجدت اتفاقيات أوسلو أرضية خصبة للانقسامات الفلسطينية - الفلسطينية، سياسياً وأيديولوجياً ومناطقياً واجتماعياً وطبقياً، بشكل غير مسبوق في التاريخ الفلسطيني الحديث، ولعل أكثرها خطورة صراع حركتي فتح وحماس وتداعياته على تهتّك نسيج الحركة الوطنية. سلَّح واقع الصراع المحلي إسرائيل بأدوات ضغطٍ جديدة، مثل إحكام الحصار على قطاع غزة وخنقه إنسانياً واقتصادياً، في مقابل تيسير أعمال سلطة رام الله وشبكة مصالحها، ما دفعها إلى التغول أكثر في السلطوية وتقديم خدمات أمنية لإسرائيل، بحجّة فرض الاستقرار السياسي بمعزل عن تسارع الدينامية الاستعمارية.
أفضى الوهن الفلسطيني إلى تمادي اليمين الصهيوني في إسرائيل، ونظرائه من تيارات المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة، مع تواطؤ بعض الدول العربية، في فرض حلولٍ تصفويةٍ على القضية الفلسطينية، أهمها "صفقة ترامب - نتنياهو". يستعرض الكتاب هذه الصفقة، ويفكّك مضامينها بالمقارنة مع المبادرات الأميركية المتتالية بعد 1967، التي برغم انحيازها الواضح إلى المطالب الإسرائيلية، إلا أن "صفقة ترامب - نتنياهو" وصلت إلى أوج الوقاحة الاستعمارية في إنهاء أبسط الحقوق الفلسطينية وشرعنة الانتهاكات الإسرائيلية الأعراف والقوانين الدولية، كالاعتراف بالمستوطنات وبالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

يقرّ عزمي بشارة بثلاث مسائل حيوية، وجب أخذها بالاعتبار في بناء استراتيجية فلسطينية تحرّرية جديدة

ما خيارات الفلسطينيين لإعادة تعديل المسار؟ يقرّ عزمي بشارة بثلاث مسائل حيوية، وجب أخذها بالاعتبار في بناء استراتيجية فلسطينية تحرّرية جديدة. أولاً، إن هذا صراع طويل ومليء بالمشاقّ والمصاعب، وبالتالي وجب التفكير في استراتيجيات نضالية طويلة المدى. ثانياً، يقف الفلسطينيون اليوم أمام واقع جديد ومختلف كثيراً عن الماضي، ولهذا فإن محاولات إعادة إنتاج الأدوات النضالية القديمة غير مجدية. ثالثاً، وجود نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني في فلسطين نقطة قوة وجب البناء عليها.
لقد أنهك واقع أوسلو الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والاجتماعية، وهذا يتطلّب التفكير ملياً بآليات منهجية لدعم صمود الشعب الفلسطيني. وبخلاف الأصوات النقدية القائلة بحل السلطة ومؤسساتها بشكل مطلق، يقترح بشارة إمكانية التخلص من قيود "أوسلو" وموروثه عبر تبني الحل المؤسساتي، منطلقاً من ضرورة إعادة هيكلة مؤسسات السلطة السياسية، لتصبح ذات طابع وطني اجتماعي وتنظيمي، تحفظ الأمن المحلي بواسطة قوات شرطية، مع غلق تام لملف التنسيق الأمني. بمعنى آخر، يمكن استثمار ما أوجدته السلطة من مؤسّسات لتقوم بمهام اجتماعية واقتصادية فاعلة، مع ضرورة تبنّي برامج واستراتيجيات جديدة في مجالات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، بعيداً عن ممارسة السلطة السياسية. ويعتبر إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية ضرورياً لتكون بمثابة الإطار التنظيمي الجامع، وتفعيل انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وضمان تمثيل كل التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمع المدني في الداخل الفلسطيني والخارج. ومن المهام التي يجب على المنظمة التركيز عليها، دعم الحركات والمبادرات والبرامج الشبابية المناهضة لنظام الفصل العنصري في الوطن والشتات.
وكما أنّ أي استراتيجية تحرّرية تحتاج إلى تحالفات مع قوى تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، من الضروري التحالف مع التيارات العربية الديمقراطية المؤيدة للعدالة، التي تناضل في سبيل التحرّر العربي، وترى في فلسطين قضية مركزية في هذا التوجه. يلفت عزمي بشارة أنظارنا إلى أن فلسطين قضية مركزية جامعة للعرب، إذا نظرنا إليها من منظور عربيّ كليّ، ولكنها لا تتناقض، في الوقت نفسه، مع أولويات الشعوب العربية المحلية التي تناضل ضد السلطوية والفساد ومن أجل استرداد حقوقها المدنية والسياسية. علاوة على ذلك، يجب أيضاً بناء تحالفات وشبكات تنسيقية مع القوى الحرّة في العالم، والمجموعات اليهودية المناهضة للصهيونية والمسلّمة بالحق الفلسطيني.
ما يقدّمه كتاب "فلسطين .. مسائل في الحق والعدل" من معرفة غزيرة ونقدية عن القضية الفلسطينية يجعله في مصافّ الكتب المرجعية الأساسية في حقل الدراسات والأطروحات الفلسطينية. كما أن النص يجمع ما بين الصياغة اللغوية الرصينة والسلسة، ما يجعله متاحاً للأكاديميين والدارسين والنشطاء وصانعي السياسات على حد سواء.

3C1BD900-A8D5-487F-8FAE-4185D587B00D
3C1BD900-A8D5-487F-8FAE-4185D587B00D
طارق دعنا
طارق دعنا