11 نوفمبر 2024
عزمي بشارة والنخبة.. ومحاضرتان
التقت محاضرتان للدكتور عزمي بشارة، أخيراً، في ندوةٍ في تونس ولطلبةٍ في معهد الدوحة للدراسات العليا، في مشاغلهما بشأن المسألة الديمقراطية والثورات العربية. وبين الأفكار والتحليلات والاجتهادات غير القليلة فيهما، حضر إلحاحٌ شديد الأهمية، يستحقّ درساً مفصّلاً وحده، ونقاشاً بشأنه عريضاً وأوسع، (حاء الدكتور بشارة عليه في غير مناسبةٍ سابقة) على دور النخبة السياسية (والمثقفة) العربية بشأن الخيار الديمقراطي، مضيّاً فيه أو إجهاضاً له. ولأن مبحثاً مثل هذا طويلٌ بالضرورة، لصلته بسياقاتٍ مديدة، إلا أن تجربة الأعوام الستة الماضية توفر مادةً كاشفة في الأمر، أي منذ اشتعال الثورة التونسية، وصولاً إلى أحدث نوبات التمويت في سورية، مروراً بارتداد مصر إلى قبضة قوى الثورة المضادّة، وليس انتهاءً إلى البحث المضني في ليبيا عن نظام مؤسّسي للدولة، ولا بالاهتراء الحادث في اليمن بعد ثورةٍ نظيفة، وإنجاز توافقاتٍ عظيمة القيمة في "الحوار الوطني". وبشيءٍ من الحذر المنهجي، ومن التحوّط الذي يطالبنا به الأكاديميون، نحن أصحاب التعليقات الصحفية، يمكن القول إن الجوهري في الذي ذهب إليه عزمي بشارة بشأن النخبتَين، التونسية والمصرية، في ما يتعلق بالثورتَيْن في بلديهما، يصلح في تعيين مسؤولية النخبة العربية، عموماً، في ما يتعلق بالمسألة الديمقراطية.
جاء في محاضرة الدوحة إنه ليس بالضرورة أن تكون ثقافة العموم ديمقراطيةً. ولكن، يجب أن تكون ثقافة قسمٍ كبير من النخبة ديمقراطيةً، وألا يلجأ جزءٌ من النخبة إلى تدبير انقلاب عسكري أو دعمه... وأن يكون جزءٌ كبير من هذه النخبة مستعداً لإجراء مساوماتٍ مع بقية الأطراف. وجاء في محاضرة تونس إن الثقافة السياسية لدى النخب تساهم في تحديد مصير الثورة، فإذا كانت النخب مأزومةً مشتّتة، كان مصير الثورة الخفوت والانحسار، وإذا كانت مسؤولةً راشدةً وتوّاقة إلى خدمة الصالح العام، كان مصير الثورة الازدهار والاستمرار. وقال بشارة في الدوحة إن كل القوى السياسية المصرية التي خلفت الشباب في الميادين، واعتلت منصّاتها، كانت على استعداد للتحالف مع النظام القديم لمنع الطرف الآخر من الوصول إلى السلطة، ولم تُبدِ أي استعدادٍ للمساومة، فكل قوى الثورة تعاملت مع مسألة الحكم والدولة كأنها صراعٌ حزبيٌّ حول انتخاباتٍ لاتحاداتٍ طلابية ونقابات، .. ولذلك انتصرت الثورة المضادّة، لأنها أخطر من النظام القديم وتستخدم أدوات الثورة. وقال بشارة في تونس إن النخبة المصرية رفضت آليات التوافق لإنجاح الانتقال السياسي، حتى لو أدّى ذلك إلى التحالف مع النظام القديم، من أجل إسقاط الثورة. وقال إن النخبة السياسية في تونس احتكمت إلى ثقافة الحوار ومنطق التوافق في التعاطي مع أزمات الداخل، وإنّ نضجها، وقدرتها على التوافق في فترة الأزمات، كان براغماتياً، وعاملاً مهماً في نجاح التجربة التونسية.
أهمية الاقتباسات الطويلة هنا، وهي مجتزأةٌ من سياق نظري وتحليلي وتاريخي، في أنها تساعد كثيراً، ليس فقط في تبيّن أسباب النجاح في تونس (غير المكتمل طبعاً) وأسباب التمادي الحادث في ممارسات السلطة الحاكمة في مصر وفشلها، لكنها اقتباساتٌ تساعد أيضاً في تبيّن مقادير انحطاط الوعي العام لدى الذين يُؤثِرون نظام الاستبداد في سورية، وسلطة صالح الحوثي في اليمن، وينحازون إلى خليفة حفتر في ليبيا، من دون اكتراثٍ بالديمقراطية قيمةً كبرى، يحتاج العبور إليها في هذه البلدان الثلاثة (وغيرها) إلى خطواتٍ مريرةٍ وطويلة. ويثرثرون، في الأثناء، أن دعوى قناعاتهم هذه رفضُهم استبداد الإسلاميين. ولعل قولة الدكتور عزمي بشارة في محاضرة الدوحة، إن الإسلاميين والعلمانيين لم يُثبت أيٌّ منهما أنه أكثر ديمقراطيةً من الآخر، أوجزت ما يمكن الجدال فيه مع أولئك، وهو كثير، كما هي كثيرةٌ مقادير البؤس الأخلاقي لدى نخبةٍ عربية، نشطت في ذمّ الربيع العربي، من دون أن يسأل أحدٌ منها لماذا كل هذا الازورار من الجماهير العربية عنها، وعمّا يمثلونه من انحيازٍ مكشوفٍ لأنظمةٍ مخلوعةٍ، وأخرى يُنتظر خلعها.