عدلي رزق الله ... وخطورة التوريث
كنتُ منذ يومين أقرأ في كتاب الفنان الراحل عدلي رزق الله "الوصول إلى البداية"، عنواناً جانبياً "في الفن وفي الحياة"، فأحسست بمدى قسوة النسيان الذي لحق بالرجل بعد مماته، وقد كان في صدارة المشهد الفني ومجالس القاهرة سنوات. وجه مألوف بلحيته الشهباء، هو من أقطاب جيل الستينيات ودار الهلال، رسّام لأغلفة الكتب والمجلات، ومن أقطاب شقّة العجوزة في الستينيات من القرن الماضي مع الراحل محمد جاد، وسيد خميس، والذي لحقه النسيان هو الآخر، لأنه لم يترك وريثا "أدبيا" يهشّ له على غنمه في مزارع القاهرة ومنافعها، فلم يترك له أي شارع باسمه وهو الذي عاش في أزقة الجيزة وأسواق برقاش، وكان من السهارى في سماوات القاهرة "أبو السيد"، أما محمد جاد فتلك حكاية أخرى، لا تكفيها المجلدات في النسيان ومدى القسوة التي لحقت به في آخر حياته، أما التاريخ والتوريث وهذه "الحاجات الجامدة جدا"، فلم يكن "أبو جاد" من هواة تلك المناظر والوجاهات أبدا واكتفى في آخر سنواته بالجلباب البسيط فقط.
وعلى الأسلوب نفسه، والزهد والقطيعة، كان الراحل نجيب شهاب الدين، صاحب أغنية "سايس حصانك على القنا وتعال"، فهل خرجوا جميعا بذهب قلوبهم من دون مطالب ولا إرباكات ولا أسماء شوارع تلصق بأكفانهم ولا محطّات مترو، إلى آخره، خرجوا كما أتوا في منتهى طيبتهم وخفتهم.
حيّرني عدلي رزق الله الذي مشى في العالم الغربي سنوات واحتفت به باريس مجتمعيا كما قال لهم على الموائد هناك بالليمون البنزهير "أنا هنا لا تهمّني كل أصناف الأطعمة والأنبذة، لأنني هنا مثل الليمون البنزهير فقط"، ومنذ أن رحل في 2010، لم يذكر اسمه في أي يوم، لا في معرض كتاب ولا أي شيء، هل لأنه ترك بنتين تعملان في تخصّصات مختلفة وسيدة بعيدة جدا عما يحدث في القاهرة ومجموعات الضغط فيها والأطعمة السياسية الفاسدة للمعدة والذوق معا؟ هل لا بد أن يترك الكاتب أو الفنان خلف ظهره في مصر وريثا يحمل النبّوت كي يستمر حضوره "دوّارا" مدى الحياة كما يحدث للأسف؟
أشياء محيرة بالفعل أخذتني إلى الروائي الراحل محمد البساطي صاحب "صخب البحيرة"، و"التاجر والنقّاش"، و"أحلام رجال قصار العمر"، إلى آخره، ولم يترُك هو الآخر وريثا يحمل نبّوتا يعمل بالإعداد، أو الإعلام، أو الصحافة، يمسك بعصاه، كي يتذكّروا مناقب والده الأدبية، فأولاده يعملون في مهن أخرى، وكادت أن تنسى سيرة الرجل أو إعادة طباعة كتبه كما يحدُث الآن لأقرانه وتلاميذه الأقل موهبة من البساطي بكثير، أما من لم يترك أحدا كفاروق عبد القادر وغيره، فلهم الله والتاريخ، إن وقف التاريخ أمام بقايا بيوتهم، وللأدب والفن في توريثه حكم وأعاجيب.
نعود إلى كتاب عم عدلي، كما كنت أحب أن أناديه، خصوصا أنه من صعيدنا الأوسط من "أبنوب الحمام"، أسيوط، ومن أسرة قبطية متوسطة الحال، هاجرت إلى القاهرة في سنة 1948، طلبا لمزيد من الرزق، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة رافضا كل وصايا العائلة كي يكون صيدلانيا أو طبيبا، إلى آخره، وقد كان ذلك من طبيعة طموح العائلات القبطية المكافحة والمستورة إلى حد ما في تلك الفترة وعنوان صعودها، إلا أن عدلي، بعناده الصعيدي، أصرّ أن يكون نفسه كعادته دائما فسار في طريق الفن حتى آخر نفس مفضلا، في آخر حياته وصبره وعرقه، ذلك البيت الجميل الواسع بحديقته في الكينغ مريوط بعيدا عن مرسمه الذي لازم سكنه طوال عمره كله إلا قليلا، وأصبحت القاهرة تمثّل شوقه الدائم للناس والأصدقاء مع الضحك والنارجيلة في مقهى زهرة البستان أو أيام معرض الكتاب بالقاهرة، ثم يعود لمرسمه في الكينج مريوط مكتفيا ببيته الجميل بعيدا عن عصابات الفن، والأطماع، متحصنا بجمال بيته بعيدا عن الأذى.
تأملت في الكتاب "الوصول للبداية"، عدلي رزق الله الكاتب الذي يحاول أن يعبّر بالكلمات عما يجيش بداخله بعيدا عن "المائيات" التي اشتهر بها، وكانت صلب أدواته البسيطة في محاولة صياغة فهمه للعالم والاستمتاع به.
البداية عند عدلي هي المكان، وهي الأم بروائحها المميزة لها وهي النخلات وهي البيت الأول، وهي "أبنوب الحمام". الأم عند عدلي رزق الله هي وتد الخيمة الأول في وجود الأسرة، وعلّ تلك هي "البركة" التي لازمت عدلي مرحا وطيبة وتمتعا بالحياة، حتى غادر الدنيا بلا قسوة ولا خشونة، لا كما كنا دائما نرصده، نحن الشباب أيام كنا شبابا، في أغلب جيل الستينيات من أبناء الفلاحين والصعايدة، من متوسّطي الحال، والأكثر جمالا بعد رحيله أنه لم يترك خلف ظهره وريثا يحمل "نبّوت والده"، ويرعى بقية أغنامه أمام مؤسّسات الدولة.