عبقرية "ست الحبايب"

29 مارس 2015

فايزة أحمد.. غنّت "ست الحبايب" في 1958

+ الخط -
ليس من السهل الوقوف على كُنْهِ العبقرية التي امتلكها الشاعرُ الغنائي، حسين السيد، وموسيقارُ الأجيال، محمد عبد الوهاب، والمطربةُ ذات الصوت العذب، فايزة أحمد، وجعلتهم يبدعون أغنية "ست الحبايب"، ويقدمونها للناس في سنة 1958.
في مارس/آذار من كل عام، يستمع لـ "ست الحبايب" ملايينٌ مملينة من الناطقين بالعربية، بمناسبة عيد الأم، بل ويستمعون إليها، ويترنمون بها في أوقات أخرى، باعتبارها أغنية عامرة بالطرب الأصيل، تستولي على ساحة الشعور لدى المستمع، وتجعله مسروراً، وتأخذ بيده للتحليق في الأعالي.
محمد عبد الوهاب، بعد النجاح العظيم الذي حققته الأغنية بصوت فايزة أحمد؛ لم يستطع مقاومةَ إغراء النجاح هذا، فغناها بصوته الرجولي العذب، وبمعلمية وتفريدات نادرة، فرفع، بذلك، من شأنها أكثر... وفي كل حفل فني طربي يُقَامُ في مدينة عربية، لا تعدم مطرباً يغني ست الحبايب، حتى لقد دفع الحماسُ كاظم الساهر لأن يغنيها، بطريقة الدويتو مع السيدة ميادة حناوي، فكانت تجربة فريدة حقاً.
استمعتُ، مرة، إلى الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، يقول إن العبارات الدارجة التي تستخدمها أمُّه في سياق أحاديثها اليومية كان لها أثر كبير في إبداعاته الغنائية، وكانت لها نكهة خاصة، بعد أن أصبحت أغانيَ شهيرة متداولة بين الناس، كالقول: "أنا كلما أقول التوبة ترميني المقادير".. والحقيقة أن التأثر بالعبارات الشعبية ليس جديداً في الشعر الشعبي، بدليل أن حسين السيد استعار للأم اللقب الدارج في مصر "ست الحبايب"، الذي يقابله في بلاد الشام "ست الكل".. فهو، بهذا، أخرج العبارة من مستوى التداول اليومي، ووضعها في سياق الفن الرفيع.  
لحّن عبد الوهاب الأغنية على مقام البيات من درجة "ري" أو دوكاه، وهو مقام شرقي واسع، ذو مساحة عاطفية ووجدانية كبيرة، وأما الإيقاع الذي اختاره لمرافقة الموسيقا فهو "اللف"، ومع ‏الغناء يتحول إلى إيقاع "المقسوم"، والأخير يُستعمل في الألحان الراقصة ‏والشعبية، وهذا يزيد في الأغنية بهجة.
وأما عن السرعة النسبية للإيقاعيْن اللذين اعتمدهما فهي ليست مصادفة، بل مقصودة، الغايةُ منها تحريك وإيقاظ كل المشاعر والأحاسيس ‏الغافية في قاع النفس، لترافق الحالة الشعورية المتأججة. ولإحداث مزيد من التأثير، أدخل عبد الوهاب في المقدمة آلة الناي الممتلئة بالحنان، ما يناسب مقام الأم الحنونة بالطبع.
ومما يلفت النظر أنه، في المقطع الذي تقول فيه المطربة "زمان سهرتي وتعبتي وشلتي من عمري ليالي، ولسه برضه دلوقت بتحملي الهم بدالي"، يترك وقفة طويلة نسبياً وراء كلمة "زمان". وكأن الكلمة، هنا، جاءت للتنبيه، على طريقة الحكواتية البارعين الذين يستخدمون كلمة مفتاحية، للفت نظر المستمعين إلى وجود شيء مهم بعد الكلمة، ثم يأتي شيء مهم حقاً.
بعد أن تعدد المطربة مآثر أمها المتعلقة بالتضحية غير المحدودة التي لا تنتظر مقابلاً (سهرتي، وتعبتي، وشلتي، ولسه..) نفاجأ بارتفاع وتيرة صوتها، وتَسَارُعِهِ، من القرار، وكأن الفرحة قد غلبتها في أثناء اكتشافها مزيداً من تضحيات أمها: أنام وتسهري، وتباتي تفكري، وتصحي من الأدان وتجي تشقَّري... وهي لا تمتلك حيال هذا كله غير الدعاء: يا رب يخليكي يا أمي.
الشعر، نخبوياً كان أو شعبياً، فصيحاً أو محكياً، لا يجوز أن يبقى على وتيرة إبداعية واحدة، وحينما يكون الشاعر متميزاً، كحسين السيد، لا بد أن يعثر المرء، في مكان ما من قصيدته، على لمعةٍ ترتفع بها إلى مرتفع لا يمكن تجاوزه فيما بعد.. كما في المقطع التالي:
لو عشت طول عمري أوفي جمايلك الغالية علي.. أجيب منين عمر يكفي؟..
هذا السؤال (أجيب منين عمر يكفي؟)، هو،‏ في الحقيقة، قمة الإبداع في هذه الأغنية التي صمدت في وجه الزمن، منذ سبع وخمسين سنة. وحبل الزمان على الجرار.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...