عالم العصابات والاقتصاد النقدي

عالم العصابات والاقتصاد النقدي

15 يوليو 2023
+ الخط -

من بين أنباء تتوارد بكثافة أخيراً، تلك التي تتعلق بالعصابات، لا في مكان محدّد في العالم، بل في معظم أرجائه. تسمع أنّ عصاباتٍ متناحرة تتقاتل في الإكوادور، في السجون أو في الشوارع، وينجم عن قتالها سقوط ضحايا من صفوفها أو من المدنيين. تراقب تزايد عمليات الهجرة غير المنظّمة، خصوصاً عبر البحر المتوسط، فتجد أنّ العصابات أكثر من يستفيد من تهريب المهاجرين غير النظاميين. تقرأ عن "دورٍ" للعصابات في تهدئة عمليات الشغب في فرنسا التي تلت مقتل الشاب نائل المرزوقي حفاظاً على "أسواقها" فتشعر بالصدمة. تتناقل وسائل إعلام فيديوهات عن تحرّكات للجيوش الأميركية والمكسيكية والكندية، وترى تعليقاتٍ من قبيل "إنها مرتبطة بحملة مرتقبة على العصابات في المكسيك"، فينتابُك شعور بالفضول. تتابع أخباراً عن عمل الأمم المتحدة على إنشاء قوة لمساعدة الشرطة في هايتي لضرب العصابات المهيمنة فيها، فتحسّ وكأن العصابات جيش أو منظمة إرهابية ذات عقيدة جامدة.

ذلك كله، بالإضافة إلى تنامي أدوار العصابات الروسية والأوكرانية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، يدفعك إلى التساؤل: هل استغلال هذه العصابات الهجرة غير النظامية، التي تزايدت وتيرتها بعد عام 2015، من دون أن تجد رادعاً فعلياً لها، دفعها إلى التحرّك بجرأة أكبر لـ"تنويع أعمالها"؟

لا أحد يمكن أن ينسى أن الولايات المتحدة استعانت بالمافيا الإيطالية في أواخر الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، للقيام بإنزال في صقلية، أدّى لاحقاً إلى إسقاط بينيتو موسوليني. ولا أحد يقدر أن يتناسى "تعاون" العصابات الكولومبية مع رجال الشرطة الكولومبيين والأميركيين للقضاء على بابلو إيسكوبار في 1993. شكّل التعاون بين الشرعية والمنظمات الخارجة عنها، في هذين المثالين، قمة التقاطع في المصالح ضد "عدو مشترك"، غير أن ترك العصابات تنمو، سواء عبر إدماج نفسها في منظومة سياسية ـ مصرفية، أو في عقود مرتبطة بالدول ـ الأنظمة، جعل من ديمومتها حاجة لهذه السلطات، لا عبئاً عليها.

تنجح العصابات عادة في بناء اقتصادٍ موازٍ، مرتكز على "التدفّق النقدي"، ولا يمرّ بنظمٍ جمركية وضرائبية. في بعض الحالات، يؤدّي ذلك إلى تخفيف الضغط الاقتصادي على خزينة الدولة، ويسمح للناس في المشاركة، ولو جزئياً، في هذه الدورة. والآن، وبعد ثلاثة أعوام على تفشّي وباء كورونا، وإغلاقاته، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، لا أحد يفكّر جدّياً في ضرب العصابات. الإيطاليون مثلاً، يتعاونون مع تونس في ملف الهجرة النظامية، من دون تخصيص الموارد اللازمة لملاحقة مهرّبي المهاجرين غير النظاميين. في المكسيك، تقاتل الدولة منذ عام 2006 العصابات، من دون أفق، إذ نادراً ما يمرّ أسبوعٌ من دون سقوط قتلى في تلك البلاد. أما هايتي، فقصة فريدة من نوعها، لأن العصابات تصوّر نفسها أنها "صاحبة قضية". وصاحب القضية مبدئي، وأيديولوجيته "مقدّسة"، ودائماً ضمن شعار "من أجل الناس".

في المقابل، تحتاج العصابات المنظّمة إلى حراك دائم للحصول على الموارد. لذلك تبقى على تماسّ مع المجتمعات الموالية للشرعية، عكس المنظمّات التي تؤمن فعلاً بعقيدة سياسية أو دينية، إذ تنزوي بصورة أكبر، وتفتّش عن كسب أنصار لها بقوة الحجّة. وعسكرياً، يمكن القضاء على العصابات، خصوصاً أنها ليست جيشاً بالمعنى الفعلي للجيوش، وتطوير المسيّرات يُفترض أن "يسهّل" عملية ضرب هذه العصابات، لكن إحجام سلطات الدول المعنية عن ذلك، أو الاكتفاء بهجمات محدّدة لا تقضي على هذه المنظمات، يعني أمراً واحداً: تحتاج الحكومات إلى اقتصاد نقدي للبقاء على قيد الحياة، والعصابات تؤمّنه. وحتى يستقيم الاقتصاد الدولتي، تسابق العصابات الوقت، إما للانخراط فيه أو للهروب من أي محاولة لإنهائها بعد انتهاء دورها. وعلينا "تقبّل" وجودها عقوداً لا سنوات.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".