عابرون في المتن الفلسطيني

14 مايو 2021
+ الخط -

لم تكن النكبة يوماً عابراً في روزنامة الشعب الفلسطيني، ولم تصبح مجرّد صفحة نكدة في تاريخ فلسطين وأهلها. بل كانت النكبة بداية تغريبة فلسطينية طويلة ومريرة، بدأت منذ احتلال الأغراب أول بيت فلسطيني في اللد بعد طرد أهله وتشريدهم قبل 73 سنة، وتستمر فصولها وصولاً إلى تدمير برج الهدى في غزة، وتشتيت ساكنيه عشية عيد الفطر "السعيد". تستمر النكبة في حفر أخاديد من الحزن والألم في وجه الفلسطيني، سواء من هام على وجهه في المنافي القسرية، أو من بقي مزروعاً في أرضه مثل زيتون الأقصى. سبعة عقود ونيف مرّت، والنكبة الفلسطينية تتوالى، فصولاً لا أياماً، تتوارثها أجيال الفلسطينيين، ويروي حكايتها الأجداد للأحفاد منذ مذبحة دير ياسين، وحتى مجازر بيت حانون ودير البلح وخان يونس، وقبلها جنين وقبية والطنطورة وغيرها من الدمويات المتراصّة في أجندة النكبة ويومياتها.

على أنقاض نكبة الفلسطيني، صار لقطعان المستوطنين الصهاينة دولة، وصار للدولة يوم استقلال وطني. ومنذ النكبة، صارت دولة الكيان أكبر وأعتى، وأكثر عدوانية وطغيانا. تمدّد سرطان الاحتلال في الأرض العربية، مرّة باغتصاب الأرض المباشر، وأخريات بالتمدّد في العواصم العربية بالهيمنة والتطبيع. صار للاحتلال جيش هو الأقوى في المنطقة، وصار لهم اقتصاد وجامعات ومراكز أبحاث وسجون فيها أقبية تعذيب. تجذّر الاحتلال في الأرض، وارتفع متطاولاً نحو السماء، صار الجيران يخشونه، وصار لبعض العرب حليفاً ونصيراً. تغوّل الكيان الغاصب وتوغل في الأرض العربية، وصار غولاً يفرض شروطه على المنطقة، وصار قطعان مستوطنيه مرتزقة مسلحة تعيث في الأرض العربية خراباً وفسادا.

ويوم صار للمحتل الغاصب دولة، صار للفلسطيني خيمة تؤويه من نكد الحياة على الكريم. راح الفلسطيني يبني أوطاناً في المنافي، ويطوي سرّه على وطن واحد راح منه يوم النكبة. هنا فلسطيني يهاجر أو يهجر إلى البرازيل وكندا والولايات المتحدة الأميركية بحثا عن جنسية وحياة آمنة، وهناك فلسطيني يطارد لقمة العيش في الخليج العربي، وفي وجدان كل واحد منهم وطن مطرّز على جدار القلب، وأغنيات منقوشة بالحناء في جوف النفس. سبعة عقود ونيف، مات الكبار، وشبّ الصغار، والحكاية لم تنته. خاب ظن المستعمر، لم تمت النكبة، لم ينس الصغار، توارثوا النكبة، فهي ليست مجرّد حكايةٍ من خراريف الجدّات.

من أتون النكبة، انتفض طائر الفينيق الفلسطيني، صارت طوابير اللاجئين طوابير من الثورة والفدائيين. لم يرض الفلسطيني بالخيمة والمخيم وكرت مُؤن وكالة الغوث "أونروا". إنطلق العمل الفدائي، وصار للفلسطيني كوفية تبحث عن وطن ضائع بين غصن زيتون مكسور وعالم ظالم. وكما توارث الفلسطيني فصول النكبة، توارث فصول الثورة من أحراش القسطل في القدس إلى أحراش جرش في الأردن، ومن جبال النار في نابلس إلى جبال صنّين في لبنان. انتفض الفلسطيني في الوطن، وسجّل بحجارة أطفاله شجاعة أدهشت العدو قبل الصديق. ناضل الفلسطيني منذ النكبة بكل ما إستطاع إليه سبيلاً. أبدع أشكالاً من المقاومة، عجز عنها خيال أساطير الأولين. وعلى الرغم من المطاردة من الأشقاء قبل الأعداء، قبض أبناء النكبة وأحفادهم على وطن من جمر.

في الذكرى الـ73 للنكبة، ينهض الفلسطيني منتفضاً في حيفا ويافا واللد، ويشتبك الفلسطيني في نابلس ورام الله والخليل مع مغتصبي بيته، وعندما يستغيث أهل "الشيخ جرّاح" في القدس، يأتي الجواب مدوّياً من غزة. ثلاثة وسبعون عاماً على النكبة، ولم يزل الفلسطيني يُمسك بكل حذافير وطنه، لا يريده ناقصاً أو منقوصاً، هو الوطن الذي كان قبل النكبة بكل تفاصيله، من البحر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش. هو الوطن، الأمانة التي تركها الأجداد للأحفاد، لا يقبل القسمة ولا التقسيم، مهما طالت فصول التغريبة الفلسطينية، أو تعقّدت تضاريس النكبة. في الذكرى الـ73 للنكبة، ارتفع طوفان الغضب الفلسطيني من رفح إلى عكا، وصار الاحتلال أقرب إلى جملةٍ معترضةٍ في متن التاريخ الفلسطيني.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.