طموحات إيران وحدودها
مع تنامي مظاهر ضعف إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وتعاظم التحدّيات الداخلية والخارجية التي يواجهها، خصوصاً مع تنامي التقارب الصيني - الروسي، وميل تيار في واشنطن إلى عقد اتفاق مع إيران بأيّ ثمن، لمنع التورّط في حربٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط، تلوح أمام إيران فرصة أخرى لمحاولة تشكيل المشهد الإقليمي، أو المشاركة في تشكيله لمصلحتها. والواقع أنّ محاولات بناء نظام إقليمي في منطقة غرب آسيا تكون إيران في مركزه حلم قديم، لم يغادر مخيلة نخب إيران الحاكمة سواء في عهد النظام الشاهنشاهي أو في عهد نظام الملالي، وإن اختلفت أدوات الوصول إليه وتحقيقه. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حاولت إيران، على ضعفها، استغلال فرصة سقوط الدولة العثمانية وإعادة تشكيل المنطقة لصالحها عبر الهيمنة على العراق، إلّا أنّها فشلت، بعدما تقاسمت القوى الغربية المنتصرة في الحرب تركة الدولة العثمانية. ولم تلبث إيران نفسها أن وقعت تحت هيمنة البريطانيين الذين سيطروا على مقدّرات البلاد وقرارها من خلال شركة النفط الأنكلو- فارسية، التي تحول اسمها إلى شركة النفط الأنكلو- إيرانية، بعد تغيير إيران اسمها من فارس إلى إيران عام 1934. بالمثل، لم يؤدِّ انهيار نظام الهيمنة الاستعمارية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية إلى تعزيز فرص إيران، خصوصاً أنّ الدولتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، اقتسمتا النفوذ في المنطقة خلال الحرب الباردة، فضلاً عن بروز جامعة الدول العربية إطاراً سياسياً وأمنياً عربياً، تحوّل في الفترة الناصرية، مع قيادة مصر العالم العربي، إلى مركز ثقل إقليمي من الصعب تجاوزه.
مع تغير النظام في طهران عام 1979، وخروج مصر من معادلة الصراع، تجدّدت محاولات إيران إعادة تشكيل المنطقة لصالحها، عبر شعار تصدير الثورة. وكانت تطلعات النظام الإيراني للتمدّد إقليمياً وتصدير نموذجه الى الخارج تزداد أو تقل بحسب إمكاناته وظروفه ودرجة المقاومة الإقليمية والدولية لمشروعه، لكنها لم تتوقف يوماً، بل تغيرت أدوات تحقيقها. ومنذ انتهاء الحرب مع العراق، تبنّى النظام الإيراني عقيدة أمنية تقوم على فكرة رئيسة، مؤدّاها أن إيران لن تخوض حربا مباشرة مرة أخرى، وإذا كان ولا بدّ، فلن تخوضها على أرضها، وفي مدنها. كانت كلفة الحرب مع العراق مرتفعة، إذ قتل أو أصيب خلالها نحو مليون إيراني، وتعرّضت مدن حدودية بأكملها للدمار، وبلغت خسائر إيران الاقتصادية فيها نحو 700 مليار دولار. كما كشفت هذه الحرب ضعف قوات إيران المسلحة، وعدم كفاءتها في الحروب التقليدية، وتقادم أسلحتها نتيجة العقوبات الأميركية، كما بيّنت عدم وجود حلفاء كبار لإيران على الساحة الدولية.
وباستثناء الحرب العراقية - الإيرانية، لم تدخل إيران في مواجهة عسكرية مباشرة مع أيّ قوة خارجية ذات شأن خلال القرن الماضي، بما فيها إسرائيل وأميركا التي تفنّنت إيران في ابتداع مفردات العداء لهما، بل اعتمدت بدلاً من ذلك لتنفيذ مشروعها سياسة اختراق مجتمعات الدول المجاورة، عبر استمالة فرق مهمّشة من الشيعة وغيرهم من الأقليات، واستخدامهم لتحقيق أهدافها بأقل التكاليف السياسية والمالية والبشرية، فحاربت العراق بدم الأكراد (1958- 1975) وأميركا بدم الشيعة العراقيين بعد عام 2003، وأوجدت موطئ قدم لها على شاطئ المتوسط وفي الصراع العربي - الإسرائيلي بدم الشيعة اللبنانيين، وواجهت السعودية في اليمن بدم الحوثيين، وتحارب للحفاظ على نفوذها في سورية بدماء السوريين، من جميع المذاهب والطوائف، وترسل إليهم المدد مليشيات شيعية من قوميات مختلفة عربية وأفغانية وباكستانية وغيرها. تسمح هذه الأساليب والأدوات لإيران بإلحاق أبلغ الضرر بخصومها من دون تحمّل أي مسؤوليةٍ عن ذلك. وقد تعلمت إيران أنّ استخدام الجماعات المسلحة والمليشيات في حروب الوكالة يحقق لها أعلى العوائد بأقل التكاليف، فهو يعطي مرونة (يخفف المخاطر)، يردع الخصوم عن مهاجمتها، ويغطي على مكامن ضعفها وهشاشتها، ويسمح بإعادة ترتيب أوضاع الإقليم، بما يخدم مصالحها.
على الرغم من ذلك، لم تنجح إيران في تشكيل النظام الإقليمي أو في حجز مقعد لها على طاولة تشكيله، لكنّ فرصها لتحقيق ذلك تتزايد، أخذاً بالاعتبار التحوّلات الكبرى الجارية في بنية النظام الدولي، بيد أنّ العامل الحاسم في نجاحها يبقى استمرار غياب مشروع عربي للنهوض والمواجهة، وإحجام مصر عن تأدية دورها التاريخي في قيادته.