طلّاب مصر فئران تجارب

19 اغسطس 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

لا أدري كم عدد المرّات التي غيّرت فيها الحكومات المتعاقبة في مصر نظام التعليم قبل الجامعي، خصوصاً ما يتعلق منه بمرحلة الثانوية العامة. فقد صارت التعديلات على نظامها تقليداً ثابتاً يتجدَّد مع كلّ وزير يحمل حقيبةَ التعليم، والغريب أنّ هذا النمط سائدٌ منذ أكثر من 20 عاماً، بل تعود جذور التعديل والعبث في التعليم قبل الجامعي إلى ما يقرب من نصف قرن، ففي منتصف سبعينيّات القرن الماضي حُذِفَ أحد الأعوام الدراسية في المرحلة الابتدائية، ثم أعيد إدراجه مُجدَّداً. وتوالت بعد ذلك نسخٌ متنوعةٌ من التعديلات في نظام التعليم قبل الجامعي، انصبَّ بعضها على اللغة الأجنبية الثانية في المرحلة الإعدادية (المتوسّطة)، قبل أن ينتقل العبث إلى المرحلة الثانوية بتوزيع متطلّبات شهادة إتمام دراستها بين عامين بدلاً من عام. ثمّ التراجع عن هذا. وتحوّلت شهادة الثانوية العامة من محطة مفصلية لتوجيه الطلاب إلى التعليم الجامعي، وفقاً لنتائجهم في تلك المرحلة، إلى فأر تجارب لكلّ وزير تعليم يهبط على الوزارة.
ولا بدّ من التذكير بأنّ جُلَّ وزراء التعليم في مصر لم يكونوا يوماً من الخبراء التربويين، ولا من الأكاديميين المتخصّصين في التعليم. ففي مدى نصف قرن، لم يحمل هذه الحقيبة وزيرٌ متخصّص أكاديمياً أو فنّياً (تكنوقراط) سوى اثنَين، كما لو كان ذلك استثناءً يُؤكّد قاعدةَ أن تُوكل هذه الوزارة إلى غير أهل الاختصاص، فالبقية جميعاً إمّا قانونيون وإما أطباء وإما أصحاب أيّ تخصّص آخر بعيدٍ من التربية والتعليم.
قبل أسبوعين، أعلن وزير التعليم الجديد في مصر تعديلات جذرية في المرحلة الثانوية، تمسّ صميم المحتوى التعليمي (المواد والمناهج) بحذف بعضها تماماً، وإدماج أخرى، واستبعاد موادَّ من المجموع الكلّي. وما يدعو إلى الدهشة والاستياء في ذلك أنّ رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أعلن، مطلع شهر يونيو/ حزيران الماضي، أنّ أيَّ تعديلات على نظام المرحلة الثانوية ستُعرَض للحوار المجتمعي، على أن يشارك فيه ممثّلون لكلّ الجهات والفئات ذات الصلة، بدءاً بالخبراء المتخصّصين، ومعهم العاملون في المجال من مدرّسين وإداريين، إضافةً إلى أولياء أمور وشخصيات عامَّة. جاء هذا التصريح في أعقاب اجتماع عقده مدبولي مع وزيرَي التعليم والتعليم العالي، فعرض وزير التعليم تصوّراً تفصيلياً للتعديلات المُقترحة. وبعد أسابيعَ، حدث التغيير الوزاري، وتولَّت حكومةٌ جديدةٌ برئاسة مدبولي نفسه، لكنّها خلت من الوزير السابق الذي كان وكيلاً للوزارة ومشرفاً على التعليم العام وعلى امتحانات المرحلة الثانوية أعواماً طويلة.
وفي الوقت ذاته، كان للتعليم نصيبٌ مُهمٌّ من جلسات الحوار الوطني الجاري منذ أكثر من عام. وطُرِحَت تصوّرات لتطويره خصوصاً في المرحلة الثانوية. والمدهش أنّ التعديلات التي جاء بها الوزير الجديد أخذت بعضاً من تلك التصورات فقط، فخرجت مُشوهةً وبلا معنى أو مضمون. وباغت الوزير المصريين بها من دون استيفاء ما أعلنه رئيس الحكومة، وما طالب به الحوار الوطني من حوار عام ومناقشة مستفيضة للخروج بتعديلات تحظى بتوافق مجتمعي.
أمّا عن تفاصيل التعديلات ومضمونها، فتكفي معرفة أنّها اعتبرت موادّ مثل الجيولوجيا وعلم النفس لا ضرورة لها. وأدمجت الفيزياء مع الكيمياء، وأخرجت اللغة الثانية من المجموع الرسمي المُحتسَب في الشهادة. لكنّ الخطورة الحقيقية في إقرارها من دون منطق أو معايير واضحة. وكالمعتاد في أحوال مصر العبثية حالياً، لن تستمرّ تلك التعديلات الشاذّة طويلاً، إن جرى تطبيقها أصلاً. لكن الأهمّ أنّها ليست سوى حلقةٍ جديدةٍ في مسلسل التخريب خلف واجهة التجريب في مسار طلاب مصر ومصيرهم.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.