11 نوفمبر 2024
طلال حيدر.. رداءة المديح
المديح واحدٌ من أغراض الشعر العربي القديم، وكثيرٌ منه جميلٌ وطيّبٌ على الذائقة، له مكانة متقدّمة في الذاكرة الثقافية العربية. ومعلومٌ أن مدحَك غيرَك هو ثناؤك على فضائله وسجاياه، وهذا ليس مكروها في العموم، إذا تحلّى الدافعُ إليه بالصدق. أما إذا الممدوحُ بلا شمائل، وسيرتُه وسخة، فإن المادح يكون كاذبا. وأرفع شعراء العربية القدامى، منذ امرئ القيس ربما، كانوا شعراء مديحٍ وهجاءٍ ورثاءٍ وغزل، يُتقنون القصيد في هذا كله. ومعروفٌ أن عطايا الحكام كانت البواعثَ الأهم لموروثٍ غزيرٍ في الشعر العربي من قصائد المديح. وقد خاض أهل الدرس في هذا الأمر في تمايزاتٍ ليست قليلة القيمة والأهمية بين الشعراء في مديحهم السلاطين والخلفاء وأولي الأمر، ومن ذلك إجماعُهم على أن مقادير الارتزاق في أشعار المتنبي، في هذا اللون من القصائد، كانت أقلّ كثيرا مما لدى غيره، وهو من عظماء شعراء العربية في كل ما قال، لا ريب. ولا يغيب، بداهةً، أن شعراء كبارا ظلّوا يتعيّشون مما يمدحون به هذا وذاك. وكانت مأساةً تبعث على تعاطفٍ كبير مع بشار بن برد، لمّا مدح الخليفة العباسي، المهدي بن المنصور، ثم امتنع الأخير عن إعطائه مالا، فاغتاظ الشاعر، وهجا الخليفة بشديد الهجاء (يزني بعمّاته، مثلا!)، فقتلَه هذا بتهمة الزندقة.
يُخلّ هذا الإيجاز هنا بالإحاطة بمسألة المديح في قديم الشعر العربي. أما عنه في الحديث من هذا الشعر، فإن أي إيجازٍ، مهما كان مخلّا، لن يغفل عن محمد مهدي الجواهري، الموصوف بأنه آخر الشعراء الكلاسيكيين العرب الكبار، جادَ على الملك فيصل الأول والحسن الثاني وحافظ الأسد وغيرِهم (له قصيدةٌ مبكّرةٌ في مدح ستالين!) بقصائد مدح، لا حرج في القول هنا إنه كان مُجيدا فيها. ولا يتحسّب كاتب هذه السطور من الجهر بإعجابه بملكات شاعر عراقي كبير آخر، هو عبد الرزاق عبد الواحد، في قصائدِه التي يفخر فيها بالعراق، وأخرى مدح فيها صدّام حسين. وثمّة غيرُه شعراء عراقيون، كعوبُهم عاليةٌ في "غرض المديح" الذي أتقنوا فيه الشعر، العمودي التقليدي. وكنّا، إذ نغبطهم على مواهبهم اللغوية العالية تلك، نتأسّى لحالهم، وهم يستهلكون قرائحهم في مديح الدكتاتور إياه.
طافت نتفُ هذه الأفكار العابرة في هذه التقدمة، غير الموجزة، على بال صاحب هذه المقالة، وهو يُنصت (الإنصات هو الاستغراق في الاستماع) للشاعر اللبناني، طلال حيدر، يقرأ قصيدتَه في مديح ملك العربية السعودية، سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده، في حفل سفارة المملكة في لبنان، في المتحف الوطني في بيروت (!). رداءة القصيدة هو أول ما تلحظه فيها، ظاهرةٌ تماما. لا تُحيلك أبدا إلى صاحبها، شاعر المحكيّة اللبنانية الرائقة وقصائد الفتنة بالطبيعة، شاعر الصورة بحسب وصفٍ له محق. بدا في الذي قاله فقير المخيّلة، وكان معجمُه وقاموسُه محدوديْن، ما يسوّغ سؤالا عما إذا كان الشاعر البعلبكي لم يقع على ما يسلّح به قصيدتَه من مآثر وشمائل في الملك وولي عهده الممدوحيْن، فلم يجد غير "اليد السمحاء" (نعم بهذه الركاكة)، وغير أن محمد بن سلمان يقول للآتي تعال، لأنه لا يحبّ الانتظار.. ثمّة في القصيدة أيضا "سيف الحق" و"الله أكبر الله أكبر"، وعزٌّ وافتخارٌ بخادم الحرمين (رعاه الله، بحسب القصيدة!).
غاب عن "رائية" طلال حيدر جليل المعنى وخالد القول، وهذا ما ظلّ يُعجِب النقاد القدامى في مدائح أبي تمام والبحتري وجرير وغيرهم. غاب عنها ما كان قد غاب أيضا في مرثيّة طلال حيدر نفسه غير المنسية باسل حافظ الأسد، والتي ربما أعطتها عاميّتُها بعض إعجابٍ بها. ومؤكّد، وبديهيٌّ كثيرا، أن أرطال الافتعال الوفيرة في أبيات قصيدة المدح المستجدّة الفصيحة لكاتب أغنية فيروز "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان" جعلتها في منزلةٍ دنيا، وهو الشاعر الذي له مطرُحه الأنيق في عاميّات الشعر العربي الجديد، وفي قصائد الأغنيات الصافية.
كان غسان تويني يسأل طلال حيدر: من أين تأتي بهذه الصور في شعرك؟ فيجيبه: لو أعرف من أين تأتي ما كنتُ كتبتُها .. والسؤال الآن: ما الذي أخذك إلى المشهد المؤسف، غير اللائق بك، شاعرَنا الذي لطالما أحببْنا قصيدَه؟
طافت نتفُ هذه الأفكار العابرة في هذه التقدمة، غير الموجزة، على بال صاحب هذه المقالة، وهو يُنصت (الإنصات هو الاستغراق في الاستماع) للشاعر اللبناني، طلال حيدر، يقرأ قصيدتَه في مديح ملك العربية السعودية، سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده، في حفل سفارة المملكة في لبنان، في المتحف الوطني في بيروت (!). رداءة القصيدة هو أول ما تلحظه فيها، ظاهرةٌ تماما. لا تُحيلك أبدا إلى صاحبها، شاعر المحكيّة اللبنانية الرائقة وقصائد الفتنة بالطبيعة، شاعر الصورة بحسب وصفٍ له محق. بدا في الذي قاله فقير المخيّلة، وكان معجمُه وقاموسُه محدوديْن، ما يسوّغ سؤالا عما إذا كان الشاعر البعلبكي لم يقع على ما يسلّح به قصيدتَه من مآثر وشمائل في الملك وولي عهده الممدوحيْن، فلم يجد غير "اليد السمحاء" (نعم بهذه الركاكة)، وغير أن محمد بن سلمان يقول للآتي تعال، لأنه لا يحبّ الانتظار.. ثمّة في القصيدة أيضا "سيف الحق" و"الله أكبر الله أكبر"، وعزٌّ وافتخارٌ بخادم الحرمين (رعاه الله، بحسب القصيدة!).
غاب عن "رائية" طلال حيدر جليل المعنى وخالد القول، وهذا ما ظلّ يُعجِب النقاد القدامى في مدائح أبي تمام والبحتري وجرير وغيرهم. غاب عنها ما كان قد غاب أيضا في مرثيّة طلال حيدر نفسه غير المنسية باسل حافظ الأسد، والتي ربما أعطتها عاميّتُها بعض إعجابٍ بها. ومؤكّد، وبديهيٌّ كثيرا، أن أرطال الافتعال الوفيرة في أبيات قصيدة المدح المستجدّة الفصيحة لكاتب أغنية فيروز "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان" جعلتها في منزلةٍ دنيا، وهو الشاعر الذي له مطرُحه الأنيق في عاميّات الشعر العربي الجديد، وفي قصائد الأغنيات الصافية.
كان غسان تويني يسأل طلال حيدر: من أين تأتي بهذه الصور في شعرك؟ فيجيبه: لو أعرف من أين تأتي ما كنتُ كتبتُها .. والسؤال الآن: ما الذي أخذك إلى المشهد المؤسف، غير اللائق بك، شاعرَنا الذي لطالما أحببْنا قصيدَه؟