طقوس العيد البعيدة

21 يوليو 2021
+ الخط -

هل غابت طقوس العيد التي كانت حاضرة على مدى سنين عمرك، لأنك أصبحت بعيداً عن المكان الذي يرتبط بكل تفصيلة من تفاصيل العيد، ولأنك أصبحت غريباً في خضم بشري عملاق، لا يريك إلا حراكه وهرولته ودورانه كآلة ضخمة عملاقة، لا تعبأ بتفاصيلك المقدّسة، ولا تلقي بالاً لكل ما كان يتعلق به قلبك؟

اليوم تحاول أن تلبّي النداءات التي تطالبك بالكتابة عن تجربة الحياة، بعيداً عن تلك المدينة القوية الباسلة الشجاعة المقاومة التي تتشبث بأسمال الحياة. الجميع يريد أن يراك، وأنت تنتقل إلى عالم آخر كأنه يبعد عن مدينتك التي تدكّ بضرباتٍ قويةٍ من واحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم، آلاف السنوات الضوئية في كل جولة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى تلك المدينة، وتنهض وتلملم جراحها، وتستعد بفقرائها لكي تستقبل طقوس عيدها. اليوم يطالبونك بأن تكتب عن الفرق بين هنا وهناك وكأنهم واثقون بأن الكفّة سوف ترجّح للمدينة الكبيرة المتوهجة المتجدّدة التي تسمّى إسطنبول.

هم لا يعرفون كم كنت تحب هذه التفاصيل الصغيرة للعيد، تفاصيل الفقراء التي كنت تعيش وتعتاش عليها، ترى فرحتهم بـ"لحمة العيد" فيبكي قلبك، وترى الوجوه حولك في هذه المدينة، فلا تستطيع أن تقرأ فيها شيئاً، فهي تمرّ أمامك سريعاً في جمود، وكأنها قدّت من جليد، تتسارع خطواتها فوق الأرض وتحتها. وتجد نفسك على سبيل المثال في "مترو الأنفاق" فتسأل رفيقك "لو كان في غزّة مترو للأنفاق، هل كانت ستصل الصواريخ إليه"، ثم تجيب على نفسك بنفسك، ليت غزّة تمتلك مثله ليختبئ فيه مليونا مواطن، ويتركوا سطح الأرض للآلة العسكرية المجنونة التي لم تتردّد عن قصف البيوت فوق رؤوس سكانها، فأبادت عائلاتٍ بأكملها.

اليوم ترى أن العيد الذي تنتظره كل عام مرتين لا يأتي، ولا تشمّ أي رائحةٍ له، وتتذكّر جارتك الفقيرة التي ودعتك في اللحظة الأخيرة، وهي تُحكم رباط غطاء رأسها في الصباح، وأنت تحمل حقيبتك الوحيدة. في تلك اللحظة، شعرت ببؤس هذا العالم وعدم عدالته. لا يمكن أن يكون هذا العالم عادلاً وجارتك تتساءل: أين سأحتفظ بأكياس "لحمة العيد"؟، أنا لا أملك مبرّداً، وأعتمد على مبرّدك لتضعي لي فيه كمية اللحوم التي تصل إليّ، وأظل أعتاش عليها مدة طويلة بعد العيد... آه يا جارتي، سوف تفسد اللحوم التي انتظرتها، ماذا سأفعل؟

تفرّ دمعة من عينك أمام هذا البؤس، وتتذكّر أن بؤس هذه الجارة يصبح جلياً واضحاً في يوم العيد والأيام التي تليه، حيث تكون هذه الأيام التي تتناول فيها اللحوم مع عائلتها، بل إنها تمنح عائلتها بعض البذخ، فتستعير منها أسياخ الشواء وتشمّ رائحة شواء اللحم المنبعثة من بيتها الصفيحي فتبتهج.

غابت تلك الطقوس التي تربطني بتلك الأرض، وكأني انفصلتُ عنها كلياً، فيرى بعضهم أن عليّ أن أكتب عن تجربة الحياة بعيداً عنها. وربما يرى آخرون أن عليّ أن أندمج مع هذا المجتمع الجديد قليلاً، لكي أتناسى كل ما مرّ بي، وتكتشف أن في ذلك استحالة، فكومة الطقوس المتراصّة الغائبة المحبّبة هي حياتك، هي عمرُك وذكرياتك، وكل الخيوط الرفيعة الناعمة والخفية التي ربطتك بهذه الأرض.

تعود بك الذاكرة وتتنهد، وأنت لا تشمّ رائحة للعيد، ولا يذكّرك بطقوسٍ ارتبطت بالعادات أكثر من ارتباطها بالدين سوى صوت الأذان القادم من بعيد، وأنت تخرُج من تحت الأرض، حيث كنت تتنقل في مترو الأنفاق في تجربة أولى لحياةٍ لا تتوقف عند عيد ينتظره الفقراء ليشبعوا من اللحم، وتخرُج إلى سطح الأرض تاركاً خلفك لافتةً مضيئةً رسم عليها كبش كبير وحوله أطفال صغار، كتب فوقها بعدة لغات أن هناك حملة للتبرّع بـ"قربان عيد الأضحى" لأطفال غزّة، فتترك لخيالك العنان بأن بضع قطع من لحم هذه الحملة سيصل إلى جارتك الأرملة وسيفسد، لأنها لا تملك مبرّداً في بيتها.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.