طفلٌ يرسم كريستيانو

30 يناير 2023

(عفاف زريق)

+ الخط -

يبدو أننا لم نخرج بعد من أجواء مونديال قطر، أو أنّ الاهتمام به أخذ أشكالاً أخرى. رأيت قبل أيام قيصر، ابن جاري سيف، وهو طفل في عمر الثماني سنوات، يرسم بإتقان صورةً للاعب كريستيانو رونالدو. لا بدّ أنّه رسمها مراراً من قبل، حتى استطاع أن يُتقنها بهذه الطريقة الواضحة، وهو يحرّك الألوان من دون مجهود كبير على الصفحة البيضاء لكرّاسته. على الرغم من أنّه في عمر لا يسمح بأن يتابع كرة القدم، لكنّه استطاع أن يُتقن رسم أهم لاعبي العالم وأكثرهم جاذبية. طلبتُ منه، بعد أن عرض عليّ رسمته، وأنا جالسٌ قبالته، أن يرسمني. العجيب أنّه حاول ولم يستطع، كان ينظُر إلى الورقة البيضاء تارة، وإلى وجهي تارة أخرى وهو يرسم. رغم ذلك، رسم لي وجهاً لا ينتمي إليّ بصلة. هذا ربما أحد مكامن سحر الكرة أيضاً. تفسيري أنّ الطفل حين كان يرسم كريستيانو كان في حالة لعب، كان يلعب مع كريستيانو بطريقته، لذلك أتقن الرسم، لكن حين طلبت منه أن يرسمني تحوّلت الحالة إلى الجد، الأمر الذي شقّ عليه.
ليست كرة القدم مجرّد لعبة، بل هي لعبةٌ يمكنها أن تتضمّن ألعاباً، في تلك اللحظة التي ننتظر فيها المباراة نكون قد دخلنا مبكّراً في جو اللعبة. وفي أثناء مشاهدة اللعب المباشر، سواء في الملاعب أو أمام الشاشات، نتحوّل أيضاً لاعبين، فكلّ ما في دواخلنا حينئذ يترقّب ويتابع. أقدام اللاعبين في تلك اللحظات تساوي الكثير، ليس مادّياً كما تعرب عنه الأرقام الخيالية للمحترفين، إنما وجدانياً أيضاً، ناهيك عن الرهانات التي تسبق تلك اللعبة وتصاحبها وتتبعها، خصوصاً في أثناء كأس العالم. حين وُسمت بالساحرة المستديرة لم يكن ذلك عبثاً، هي ساحرة وتدير العقول التي تشغف بها. حتى الذين لا يحبّونها تراهم متورّطين بشكل من الأشكال بها. في طفولتنا كانت رياضة الملاكمة والمصارعة المحفز الرئيس لمشاهدة الرياضة ومتابعتها. 
أتذكّر في السبعينيات، حين لعب محمد علي كلاي كنت صغيراً، وقد سهرت، أنا وأخي الأكبر مبارك، رحمه الله، مرة في صندوق خشبي عالٍ في مدينة مطرح لعمّال باكستانيين لديهم تلفزيون صغير. وقد نقلت المباراة قرب الفجر، اجتمعنا لرؤية الملاكم المحبوب. ولحسن الحظ فاز كلاي. لكن لم يكن هناك يومئذ تشجيع إلّا في القلوب، خرجنا راضيين على النتيجة، ولم نعبر عن فرحنا كما يحدُث الآن بالطلاقة الناصعة، حين يفوز فريقٌ نحبّه. بعد ذلك انتشرت المصارعة الحرّة، كان التلفزيون يعرضها مساء كلّ خميس، ذلك المساء سيكون مشهوداً للكبار قبل الصغار. ولا يرغبون أن يعرفوا بأنّ ما يحدُث أمامهم ليس سوى تمثيل وأداء درّب عليه اللاعبون قبل المباراة. تلك الحقيقة التي يحاول أن يقنعنا بها بعضهم، كانت أكثر ما يزعج، والسبب أنّها يمكنها أن تخرجنا من جو اللعبة، إلى جدّية الواقع. 
ثم بدأت الرياضة تتسلل إلى حياتنا بمجموعة من الطرق، ليست المشاهدة وحدها، إنما يمكن كذلك استحضار الممارسة، فرياضة المشي، مع مرور الوقت، أصبحت جزءاً من نظام حياة المجتمع العربي، ليس بالضرورة أنّ الجميع يمارسها بانتظام، لكنّهم يفضّلونها على ركوب السيارات في المشاوير القريبة، خصوصاً بعد النصائح الكثيرة التي تتوالى على الأسماع والأبصار، والمتعلقة بأهمية المشي اليومي ودوره في القضاء على معظم الأمراض، والتقليل من مفعولها في الفتك، خصوصاً مرضي الضغط والسكر المنتشرين.
يمكن القول كذلك إنّ كرة القدم، كما ساهمت في ترويج الرياضة بأنواعها، يمكنها أن تكون واجهة لترويج الثقافة إذا استغّلت لهذا الهدف جيداً. الكرة ليست نقيضاً للثقافة، بل ترى كتّاباً عديدين يتابعونها، ومنهم من ألف كتباً عنها. لأنّها تنبع من المجتمع ولا تتعالى عليه. الكرة مثل الكتابة في هذه الحالة. الفرق ربما أن مكتبة الكرة الشارع، بينما الثقافة مفتوحة أكثر على الحياة في أبسط تعريفاتها. تجد أحيانا في ما تقرأ لعبةً ما. ليس بالضرورة كرة قدم، حين نقرأ روايات عن أفريقيا مثلاً نجد الرقص هو الأغلب، في أميركا اللاتينية تكون كرة القدم أكثر حضوراً في الشارع. وفي أميركا وأستراليا هناك ألعاب أخرى هي الأبرز. وهكذا هناك كرات متنوّعة تتقافز على الأرض لدى كلّ ثقاقة. اللعب جزءٌ من هذه الثقافة الشعبية. لا شعب من دون ألعاب وغناء.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي