طرد مركزي

11 ديسمبر 2022
+ الخط -

لا أدري من أقنع صاحبنا بأن يؤسّس بقالة، على الرغم من أن علاقته بالتجارة كعلاقة جدّتي بساحل العاج. لكن أغلب الظن أنه استمع إلى نصيحةٍ من أصحاب النوايا الماكرة، الذين كانوا يطمعون باقتناص أمواله، لقاء بعض أعمال السمسرة، المرتبطة بالترتيبات "اللوجستية" لعمليات التأسيس والتأهيل والتزويد، فكانت النتيجة الأولى وبالًا، فقد خسر جلّ أمواله، ولم ينجح مشروعه "الكبير"، غير أنه لم يتعلّم الدرس، فقد احتفظ بالمخزن المستأجر، وحوّل المشروع إلى صالون حلاقة، لكنه فشل أيضًا، بعد أن "حُلق له على الناعم"، كما يقولون.

غير أن حمّى التجارة استوطنته، وبقي المخزن المستأجر مدار تحوّلات دراماتيكية، بدأت ببقالة، ولم تنته بصالون حلاقة، ثم كراج تصليح "بوابير كاز"، وصيدلية، ومطعم فلافل، ثم انتهى به الأمر إلى تأسيس مكتب لـ"الهجرة" إلى "العالم الآخر".. وما زال الإعداد والتجهيز مستمرّين، سيما بعد أن أدرك مدى الهستيريا التي تنتاب العرب هذه الأيام للفرار من بلادهم.

تذكّرت صاحبي ومشروعه، عندما قرأت بيانًا صادرًا عن بقالة "جامعة الدول العربية"، يؤكّد "أهمية رفع الوعي بقضايا الهجرة"، فظننتُ، في البداية، أن كبد جامعتنا العتيدة يكاد ينفطر على المهاجرين العرب، وأنها تحذّر من مخاطر الهجرة، وتداعياتها الخطيرة على الدول العربية جرّاء نزيف أدمغتها إلى الخارج، وفقدانها قواها العاملة، غير أني ما إن تجاوزتُ العنوان إلى المتن، حتى صعقت بالكلام الموارب الذي لا يمكن الخروج منه إلا بنتيجة واحدة، أن الجامعة العربية تشجع المواطنين العرب على الهجرة من بلدانهم، وتزيّن لهم محاسنها، وإلا كيف نفهم هذه العبارة مثلًا، حين تدعو إلى "تعزيز مساهمات المغتربين العرب في التنمية المستدامة في دولهم الأصلية ودول المهجر، وتسليط الضوء على الفرص التي تتيحها الهجرة للدول والمجتمعات والأفراد"... لاحظوا هنا العبارة عن "الفرص التي تتيحها الهجرة".

زايلتني الصدمة، عندما تذكرت أن جامعة الدول العربية ذاتها بدأت كمشروع "تجاريّ"، ليس من بنات أفكار العرب أنفسهم، بل من الإمبراطوريات التي خدعتهم في الحربين العالميتين، وقسّمتهم، ثمّ أرادت أن تنشئ لهم "مشروع" وحدة التي كانوا يحلمون بها بعد انفصالهم عن تركيا، فاقترحت عليهم بريطانيا إنشاء هذه الرابطة الواهية، المدعوّة "جامعة الدول العربية"، لامتصاص أحلامهم، ومنحهم عزاء ذاتيًا عن الوحدة العربية الكبرى، فجاءت هذه "البقالة"، التي تبيع الوهم أول الأمر، وعندما خسر البيع وانفضّ الزبائن الذين أدركوا مبلغ خديعتهم، تحوّلت البقالة إلى مكتبٍ للمزادات والرهانات؛ بغية تنفيس الاحتقانات، سيما عند حدوث الكوارث، مثل نكسة 1967، ليسمع العرب "لاءات الخرطوم"، ثم اكتشف الزبائن أنهم كانوا يراهنون على أحصنةٍ خاسرة، لم تقدّم لهم شيئًا غير الكلام المعسول، سيما بعد فشل الوحدة، و"التكامل العربي" الذي جاء مصطلحًا فضفاضًا بديلاً للوحدة، وتلاه "التكامل الاقتصادي"، وأخيرًا تحوّل مكتب الرهانات إلى مكتبٍ للهجرة على ما يبدو، بدليل هذا البيان العتيد، الذي يضفي شرعيةً على تهجير الشعوب العربية، ويجمّل قبائح الهجرة في أعين الراغبين بالصعود إلى مراكب الموت.

صحيحٌ أن جامعة الدول العربية هي بنت أنظمتها، التي تشبه أجهزة الطرد المركزي لشعوبها، ومنها من هجّر نصف شعبه بطغيانه وحروبه الأهلية التي اخترعها، ولكن لم يكن يخطر ببال أن تصبح هذه الجامعة طاردةً للوحدة العربية، عبر منحها شرعيةً لجرائم التهجير، ولو من باب الكذب والوهم، على الأقل، ولا أن تُصدر بيانًا على هذا النحو الذي يجعل من الهجرة "فرصة"، بدل أن تكون دعوتها إلى التشبّث بالتراب الوطني، خصوصًا وأن هذا البيان لم يأت على وجه التخصيص، بل التعميم، ما يعني أن الشعب الفلسطيني مشمولٌ به أيضًا، وهذا عين ما يرنو إليه الاحتلال الصهيوني.

لا أدري على ماذا سيستقرّ مشروع جامعة الدول العربية، بعد كل هذه الإخفاقات المتوالية، لكن يبدو أن علينا انتظار ما سيؤول إليه مشروع "صاحبنا" أولاً.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.