طبّاخ الفرنسيس وفلسطين
هناك طُرقٌ كثيرةٌ نُحرج بها أنفسنا، وأخرى قليلةٌ نحترمها بها، فلربّما نحمل أسماءً رنّانة لمَّعناها بشقّ الأنفس، أو مُنحت لنا على طبقٍ من ذهب. ولكن إذا لم يكُن لنا ماءُ وجهٍ، ستضحك علينا الأمم. هذا ما يحدُث مع بعض الشّخصيات من المنطقة العربية التي تسعى إلى طموحات ترتمي في البحر من أجلها، وتحرقُ المراكب خلفها. وقد لا تنال شيئاً، فلا هي فازت بالبحر ولا أبقت على خطّ رجعةٍ إلى البرّ. وغالباً ما تقف ضد القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر، لتثبت إخلاصها لأولياء النّعم الغربيين.
لذا، رغم أن فوز الرّوائية الفرنسية آني أرنو السنة الماضية (2022) بجائزة نوبل للآداب، مع مناصرتها القضية الفلسطينية، أحرج الذين لا يتوقّفون عن مهادنة إسرائيل، طامعين في أن يقدّر الغرب تضحياتهم، ويُسبغ عليهم جوائزه الثمينة، ما زال بعضهم لم يتعلم الدرس. وجديدهم أخيرا الطاهر بن جلّون الذي تخلّى، منذ وقت طويل، عن انتمائه الأصلي، من أجل طموحاته، وتخلّى الآن عن إنسانيته بموقفه المعلن أخيرا من غزّة، هو الذي يقدّم نفسه مغربيا وعربيا. ولكن ما من مؤشّرٍ إلى ذلك، إلّا حكاياته التي انتقاها بدقّة، لتكون على مزاج الفرنسيس، ليحصل على جائزة غونكور ويدخل الأكاديمية الفرنسية، ولم يبق له سوى "النّوبل" العزيز. في الطريق إليه كما إلى غيره، لا بد من تأكيد الولاء التام، وفوقه حبّاتُ مسك.
لا يُعيب المرء أن يحبّ ثقافة أو يتبنّاها، حتى لو لم تكن ثقافته الأصلية، لكن من دون أن يعضّ على لسان ثقافته. تحتاجُ تصريحات الطاهر بن جلّون ومقالاته إلى بصيرةٍ نفاذة، وعقلٍ يقظ، حتى يتوقّف عن الوقوع في المطبّات الأخلاقية التي يصرّ على الاصطدام بها. في مقابل هذا الإصرار على إرضاء الغرب، يصرّ الغرب على قمع الكتابة الحقيقية التي لا تُهادن، حتى لو طبطبَ عليها في لحظة لين، كما فعل مع الروائية الفلسطينية عدنيّة شِلبي التي تخلّى عن تكريمها معرضُ فرانكفوت للكتاب، بعدما مُنحت جائزةً عن روايتها "تفصيل ثانوي" التي تقوم على واقعةٍ حدثت منذ 74 سنة، اغتصَاب قوة عسكرية صهيونية فتاة فلسطينية. قصة بشعة قد تحدُث في جل الحروب، فالنساء أُولى الغزوات، واغتصابُهن ليس فقط ممارسة جنسية ساديّة، بل انتقام حاقد أيضا. ولا بأس أن يكون المغتصبون صِربا استباحوا نساء البوسنة، أو نازيون انتهكوا جسد امرأة فرنسية، أو مقاتلون من الهوتو أو التوتسي في رواندا. وغير ذلك ضمن لائحة طويلة من الحروب التي لم تندمل جراحها بعد. ولكن لا يمكن أن يُكتب عن جريمة اغتصاب قام بها إسرائيليون، وتتوّج، فهم فوق الحساب، ولهم حصانةٌ دائمةٌ ضد النقد.
قد يكون لإسرائيل أنصارٌ كثر في موازين القوى. لكن من قال إننا بلا خطيئة نقذفها على العميان حتى يروْننا؟ وربما نفضّل أن نكون أكثر حكمة، ونُطلق أيدي العدو الذي كنا نظن أنه سيصبح أكثر ميلاً إلى السلم، حرجاً منا أو خوفاً على مصالحه معنا. لكنه لا يكترث، بل يُطلق أفواهه المزروعة بيننا ضد الأبرياء، وبينهم القائم بالأعمال الإسرائيلية في الرباط. حسنا، أيتها الرباط، ماذا كنت تنتظرين من مجموعة قرصان حصدوا البشر والحجر ليسكنوا أرضهم وبيوتهم؟ هل تظنّين أنهم سيحترمون "شجاعتك"؟ هؤلاء قوم لا يخجلون فقط، بل يدسّون في عينيك سهاما إن نظرت إليهم بعدم رضا، وسيُحرجون أصدقاءهم قبل أعدائهم.
تقدّم أحداثُ رواية عدنيّة صورة قاسية لعبثيّة العالم، وحقارته. لكن ماذا حدث لتنتقل من روائية مكرّمة إلى كاتبةٍ مستبعدةٍ من الغرب؟ هل فضحُ الاغتصاب يدخُل في معاداة السامية؟ أو أنه مثل القنابل والأطفال الموتى، يصبح حراماً حين يكون في صفوف "الساميين"؟ انتفَخ رأسي بالأسئلة، وأخشى أن تتحوّل إلى أسلحة. فلا أحد يضمن الآتي مع هذه "الخلطبيطة العبيطة". ربما علينا أن نُسكت الأسئلة ونغمض أعيننا حتى يمر كل شيء. لكن من سنكون حينها أمام التاريخ الذي قد يكون مُخادعا يروي الأشياء بذاكرة مغشوشة، رغم أنه يرى كل شيء. لكن للحقائق طريقتها الخاصة في إفساد طبخات الذين يظنّ كل منهم أنه "شيف" الحقيقة الوحيد، وعلينا مراجعة ذائقتنا كل يوم.