طائرة شاكر نوري..

04 سبتمبر 2015
+ الخط -

المسافة سفراً بالطائرة من عمّان إلى الدوحة أقل من ثلاث ساعات، كما تألفها، وكما تتوقعها هذه المرة، غير أنها من بيروت إلى روما ثلاث ساعات، كما صِرت تعرف، من روايةٍ بدأتَ قراءتها فور جلوسك على مقعدك. أعطاها كاتبها، العراقي شاكر نوري، اسم "جحيم الراهب" (2014)، وبنى مسارها، من أولى صفحاتها حتى آخرها، على استعادة راكب طائرةٍ شطراً واسعاً من حياته المثيرة، في سفره إلى روما من بيروت. لم يحدث أن طرأ على مزاجك أن تفعل مثله، في سفر قصيرٍ أو طويل، لكنك هنا ستكون مسافراً في رحلةٍ طويلة مع زمن الأب إسحق، وهو يأخذك إلى مطارح متنوعة، وإلى خيالاتٍ وأفكار وتأملات وأديان ومذاهب ورؤى عديدة، تُطالعها في طائرتك، فيما جوانحُك ومداركك في طائرة أخرى، برفقة هذا العراقي الهارب قبل أربعة عشر عاماً من بلاده إلى حيث مغامرته المتعبة، في صحراء العراق أولاً، ثم محبوساً في سجن في دمشق، ثم هائماً في ميناء بيروت، ثم مقيماً في دير رهبان مسيحيين آشوريين في لبنان، يصبح فيه راهباً، وهو المسلم الذي لاذ بالمسيحية، في مصادفةٍ يسّرت لقارئ هذه الرواية المشاكِسة، إطلالاتٍ شجاعةً ومبتكرةً في فضاءات المسيحية وفي عوالم الكنسيّة والرهبنة، عندما يتعرّف على زوبعةٍ من مسائل وجودية وروحية وفلسفية، ومروحةٍ من أسئلةٍ تتصل بقلق الإنسان في بحثه عن إيمانٍ يطمئنه ويُنجيه، إذا ما تناهبته الشكوك، واستبدّ في أفهامه شغفٌ بمعرفة الجوهريّ في الحياة، وفي علاقة الذات مع خالقها.

ليست روايةً مؤنسةً في أي سفر تلك التي تعتني بمشاغل مثل هذه، غير أن ما يُنجزه شاكر نوري في روايته الثامنة، وهو يناور في الانتقال من الطائرة في الجو إلى "دير الأيقونات" في لبنان، كما اخترع اسمه، وهو يبث مقاطع من تراجيديا المسيحية الراهنة في العراق، مثلاً، وهو يبسط حيوات سبعة رهبان تجمعوا في الدير، برعاية الأب جوزيف الذي يجوز حسبانه بطل الرواية، ما ينجزه شاكر في هذا كله، وفي غيره، يوفّر الأنس الذي تأمله في سفرٍ في طائرة، إذا ما عكفت على قراءة "جحيم الراهب"، لا سيما وأن ليونة اللغة فيها، وصّافةً وساردةً، لا تورّطك في مكابدةٍ مجهدة، وأنت تصرف وقت الطيران في تعاطفٍ رهيفٍ مع الأب جوزيف، في شقائه، وهو يعمل على تلوين الحياة الكنسيّة بإيقاع الحياة نفسها، فلا تبقى على سمت التبتّل والعزلة والتقشّف المعهود. لن ترى نفسَك تُغالب تعباً ذهنياً، وأنت تتخيّلك تسمع موسيقى، يعزفها الأب جوزيف في الدير، وأنت ترى رسماً يصنعه الأب إسحق، وأنت تطالع نقاشاً (أو جدالاً أحياناً) عميقاً، يرتدي لطافةً حاذقة، بين الرجلين اللذين قدِما إلى الدير، ووراء كل منهما محنته الفردية.

ليس وحده الأب جوزيف معك في الطائرة، بل هم سبعة رهبان، ينجح شاكر نوري في بناء قصة لكل منهم، فيجعلهم شخصياتٍ معذبةً إلى حد كبير، يُقتل أحدهم في صفحاتٍ أخيرة من الرواية، كما يعلمنا الأب إسحق، في أثناء استدعائه حكايات لا تتوقف من أربعة عشر عاماً في حياته، موصولة براهنٍ عراقي يُقتل في غضونه راهبٌ في الموصل. يتلملم هذا كله، وغيره كثير، قدّامك، أنت قارئ الرواية، المسافر في طائرة، في الساعات الثلاث التي يمضيها هذا العراقي المتمرد، في سفره من بيروت إلى روما، ليكون في ضيافة الفاتيكان، فيسلم البابا رسالةً من الأب جوزيف. مقادير من شهوة وحب وشيء من الشبق الجنسي تغشاه، وهو يستظرف جمال مضيفة روسية في الطائرة. وقبل الهبوط، يخلع لباس الراهب، ويتخفف من كل تبجيل وإجلال لحق به. يمرّ في مطار روما من بين من كانوا في استقباله من ناس الفاتيكان، وقد قرّر أن يتحرّر من التزامه بنقل الرسالة، ويودّع رهبنته الحائرة، قناعةً منه بأن الحياة، بملذاتها وبهجتها وتصاريفها وأقدارها، أنسبُ له، وقد كانت اختياره قبل أن يعبر سنواتٍ في الدير اللبناني الآشوري الذي تحاول أن تتصور حجراته وتفاصيله، وأنت في الجو، فلا يكفيك الوقت، فقد وصلتَ إلى الدوحة.

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.