صوت سيّد مكاوي يقودني إلى هناك

30 مارس 2023
+ الخط -

هل كان صوت سيّد مكاوي الأول الذي قادني في صدر شبابي إلى ميدان سيدنا الحسين، أم كتاب "حكايات حارتنا" لنجيب محفوظ، أم محطّة مصر؟، في صوت سيّد مكاوي بركةٌ ما، ممزوجة بظرف الناس البسيطة وشقاواتهم في حارات عابدين أو أزقة الجمّالية والدرب الأحمر والقلعة وصنايعيّة الفوانيس في باب الشعرية على مقربةٍ من جامع الشعراني، بركة ما، مثل بركات رمضان على البسطاء والطيبين وأبناء السبيل والمعوزين بالقرب من سيدنا الحسين في ساعات الغروب أو ميدان السيدة زينب في موالدها. وكأنه نفرٌ من أهل الله أصابته ندّاهة الفن، فترك الزاوية التي كان فيها وساقه الحظ السعيد إلى أفراح الموالد بجوار شبّاك قديم تخرج من جوار "قلل الماء" أصوات العيدان وطرب غامض يأتي من حنجرات بهيّة متحشرجة هناك، فازداد ثقةً في أوتار العود وفي نعمة المصادفات، وهلّت البركات.

في صوت سيّد مكاوي ذلك الشيء السخي الذي يشبه الفقراء في حالات مرحهم ولعبهم وطربهم المخلوط بالشقاوة والفرح والعذاب، فرح يقودهم في ظلمة الحارات إلى ميادين الذكر وحلقات الأولياء والأعراس وقطر الندى، وهي في طريقها أمام الهوادج إلى سرورها في بغداد أو أفراح المحمل بالقرب من القلعة بجوار المزامير والحواة وزغاريد العوالم في شارع محمد علي والتراويح في جامع أحمد بن طولون وبقايا الغناء التركي الغامض على مقربةٍ من الخانقاوات والتكايا والأسبلة.

صوتٌ يقودك إلى شيءٍ ما فيك لا تستطيع أن تنطق به إلا وأنت في وحدتك مع حزنك في غيط أو ترحيلةٍ للعمل في قطف الريحان بالجبل الغربي أو جني القطن، صوتٌ يأخذك إلى نفسك الشجية من دون أن تعرف قواعد الطرب أو عدد أوتار العود، ومن دون التفرقة ما بين مقام ومقام. صوتٌ فيه روائح البخور وتهليلات رمضان ودلع المنشدين حينا، يأخذهم الوجد فيمتزج الإنشاد ببدايات دلع الغناء رغم الحشمة والوقار.

صوتٌ تلمس فيه "خيال الظل" وألعاب الأراجوزات ورواة السير في المقاهي، سيّد مكاوي نغمة مصرية حتى النخاع، وابن الحارة والزقاق والفرفشة وساعة الحظ وقعدة المغربية مع الأصحاب في عوّامة على النيل أو في بيت قديم في "حوش قدم" وسط الصنّايعية وأبناء الكار.

هو بالضبط "يا مسهرني" في حنجرة أم كلثوم، وكأنه أزاح هرم أم كلثوم إلى قريتها هناك، وألبس حنجرتها دلع الحارات والأصوات في "عابدين". وهو أيضا "عفرتة الفيلسوف الحزين الطروب"، صلاح جاهين في "الرباعيات"، علّ صوته هو الذي قادني إلى سيدنا الحسين حينما قرأت بعضا من "حكايات حارتنا"، في محطة مصر، فذهبت إلى هناك من دون سابق معرفة من أحد، أي أحد، ذلك الكتاب الصغير الذي اشتريته من محطة مصر، بـ 12 قرشا، في سنة 1975، طبعة مكتبة جودة السحار، هل الكتب تقلّب القلوب والمصائر إلى هذا الحد، أم أن القلب هو الذي كان شقيا ويبحث مبكّرا عن سامر له؟

مشيت بكتابي "حكايات حارتنا" حتى سكنت "لوكاندة باب الفتوح"، ما بينها وبين بوابة الحسين الغربيّة خطوات، وهناك كانت البركات، حتى وإن سرق حذائي أو قلّت فلوسي، وكأن البركات كانت معي، وهناك كانت الحكايات، ولضمّت حكايات الصعايدة المعوزين بخيط فلاحي الدلتا الباحثين عن ربع الستر وسماع الأناشيد بفقراء المدينة ودراويشها ومقاهي الغناء فيها، فوجدت الحكايات واحدة، وتتلخّص في انتظار الحنان أو الأنس من الأصحاب أو الأولياء أو الشفاعة عند النبي، والضحك صافيا كان هو لحمة المشهد كله، وصلب كل الحكايات التي تتشابه تقريبا، وغايتها انتظار البركات، حتى من العجزة الذين خانهم المرض، بعدما استفحل الألم ودخل إلى العصب.

واصلت سماع الناس وحكاياتهم في "اللوكاندة"، على الدكك البسيطة وخزينة صغيرة للأمانات البسيطة أيضا، ورجل حكيم يجلس بجوارها من أسوان ويبدل مع آخر ليلا به طبائع الفلاحين الذين تركوا الزرع والضرع وأخذتهم المدينة لها، أحن إلى هناك، وإلى المكان في رمضان، لأنني حقا لا أطيق عزلة الريف رغم جمالها، ولكنها السن والضرورة، حتى انطلق صوت الشيخ سيّد مكاوي ب"الرباعيات"، فجعلني أعيش رمضان وحلاوة الذكرى، وأتعلّق بحلاوة أحبال الحنجرة، وتأتي إلي سحابة أناس كانوا هناك رحلوا عن المكان بكل تأكيد.

في ساعات حظوظ القلب، تأتيك السعادات من ذكريات كانت هناك، حيث كتابٌ ساقك من محطّة مصر إلى مسجد سيدنا الحسين و"لوكاندة" فقيرة، لضمت كل الفقراء هناك في عقد واحد بسيط بجوار "خزنة قديمة" بها بعض الأمانات.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري