25 اغسطس 2024
صناعة القادة التاريخيين
يكاد الإعلامُ، بمعناه الشائع، أن يكون قرين التضليل وتزوير الحقائق، وذلك بسبب تبنّي الأجهزة الإعلامية أيدولوجيات أو خلفيات سياسية مختلفة، واعتمادها على الدعاية، أو التبشير، أو ما يُعرف باسم البروباغاندا.
تعود علاقةُ المجتمعات العربية بالإعلام إلى الأربعينيات من القرن العشرين، أي إلى أيام الحرب العالمية الثانية، حيثُ كانت تتسلل بعضُ أجهزة الراديو إلى بيوت الأثرياء في المدن والأرياف، وكان الناس يلتمُّون حول الراديو، ويُصغون، مسحورين، إلى تلك الأصوات الآدمية التي تأتي عبر الأسلاك، من القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية الذي تأسس سنة 1938 قائلة: هنا لندن.
وكانت الأخبار، أيامَئِذٍ، تتحدّث عن البطل القومي الألماني أدولف هتلر الذي قال اليهودُ إنه يحرقهم في الأفران، فاستبشر أهلنا، ظناً منهم أنه يحرقهم انتصاراً للإسلام والمسلمين، ثم استخسروا به اسم أدولف الأعجمي، وأطلقوا عليه اسماً عربياً إسلامياً أصيلاً هو "الحاج محمد هتلر".
وفي أواخر الخمسينيات، راحت الإذاعاتُ المصرية، وبالأخص إذاعة صوت العرب، تشتغل، آناء الليل وأطراف النهار، على صناعة البطل القومي جمال عبد الناصر، قائد حركة الضباط الأحرار الذي أطاح الحكم الملكي في مصر سنة 1952، وأَمَّمَ قناة السويس في 1956، وأخرج البلاد العربية من حالة القُطرية الضيقة إلى حلم الوحدة العربية الكبرى، ثم تَرْجَمَ الحلم إلى حقيقة من خلال الوحدة مع سورية العربية الشقيقة.
تقوم الفكرة الأساسية لصناعة البطل السياسي، من خلال وسائل الإعلام، على "المسكوت عنه"، أي إغفال الأخطاء، والأغلاط، والهفوات، والارتكابات، والجرائم التي تصدر عن الشخصية المصنوعة، والتركيز على الإنجازات وتضخميها مهما تكن قليلة الأهمية. فالإعلام الناصري لم يكن يتحدث عن الفكرة الرهيبة التي قالها الشيخ خالد محمد خالد صراحةً لجمال عبد الناصر في قصره، أن ثورة يوليو 1952 خطوةً إلى الوراء فيما يتعلق بالديمقراطية في مصر.
ولا شك أن النسخ الأكثر سطوعاً، وبهاء، وشعبية، وفظاعةً من نسخ البطل السياسي الذي تُخرجه الأضواء الإعلامية هي صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي. فصدام لم يكن بطل العراق وحده، بل هو صدّام العرب، وصاحب "قادسية صدام"، وأم المعارك وقاهر الفرس. والكاميرات التلفزيونية العراقية لم تكن تعمل أي شيء خارج عن سياق رصد بطولات هذا العبقري الرهيب. أما الإعلام السوري فكان يُبدع، ويبتكرُ، ويتفننُ في إطلاق الصفات الحميدة على الجنرال حافظ الأسد، صاحب الانقلاب العسكري الذي عُرف باسم الحركة التصحيحية.. فهو الأب، القائد، الأمين، المناضل، المُلَهَم، بطل التشرينين، بطل الصمود والتصدّي، رمز الأمة العربية.. وزادت المغامرة البلاغية عند أحد أعضاء مجلس الشعب الحلبيين عن حد المرونة الطبيعي فتجرأ وأطلق عليه لقباً خطيراً هو: سيد الوطن.
وكان حافظ الأسد قد قضى، في مطلع الثمانينيات، على التيارات الإسلامية المعادية له قضاء مبرماً، فأعدم منهم من أعدم، وهَجَّرَ منهم مَن هَجَّرَ، وأودع الآخرين في سجن تدمر العسكري إلى آجال غير مسمّاة، ثم أتى بعلماء موالين له، وشرع يولم لهم في رمضان، وفي رأس السنة الهجرية، وتأتي الكاميرات لتصورهم وهم يقدّمون فروض الولاء والطاعة له، وتصوّره وهو يحنو عليهم، ويستمع إلى همومهم، ويحملهم توصياته وتوجيهاته إلى الرعية. وأما الجبهة الوطنية التقدمية التي تشكلت سنة 1972 لتكون ائتلافاً وطنياً تقدّمياً متنوعاً، فقد أصبحت، وبضمنها حزب البعث الحاكم، كياناً ملحقاً بالمنظومة الإعلامية الصاخبة، وأصبح الأخ صفوان قدسي، والرفيقة وصال فرحة بكداش، والأخ فايز اسماعيل، والأخ كريم الشيباني، وغيرهم، يتنافسون، ويتبارون في تدبيج المدائح الإنشائية البلاغية التي تشيد بعبقرية حافظ الأسد، وترتفع به عن طبائع البشر، وتقرّبه من مصاف الآلهة.
ومن حسن حظ الشعوب، طبعاً، أن هذه الصناعات لا تصمد في وجه الزمن.. بدليل أنها أخذت تتهاوى تباعاً.
تعود علاقةُ المجتمعات العربية بالإعلام إلى الأربعينيات من القرن العشرين، أي إلى أيام الحرب العالمية الثانية، حيثُ كانت تتسلل بعضُ أجهزة الراديو إلى بيوت الأثرياء في المدن والأرياف، وكان الناس يلتمُّون حول الراديو، ويُصغون، مسحورين، إلى تلك الأصوات الآدمية التي تأتي عبر الأسلاك، من القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية الذي تأسس سنة 1938 قائلة: هنا لندن.
وكانت الأخبار، أيامَئِذٍ، تتحدّث عن البطل القومي الألماني أدولف هتلر الذي قال اليهودُ إنه يحرقهم في الأفران، فاستبشر أهلنا، ظناً منهم أنه يحرقهم انتصاراً للإسلام والمسلمين، ثم استخسروا به اسم أدولف الأعجمي، وأطلقوا عليه اسماً عربياً إسلامياً أصيلاً هو "الحاج محمد هتلر".
وفي أواخر الخمسينيات، راحت الإذاعاتُ المصرية، وبالأخص إذاعة صوت العرب، تشتغل، آناء الليل وأطراف النهار، على صناعة البطل القومي جمال عبد الناصر، قائد حركة الضباط الأحرار الذي أطاح الحكم الملكي في مصر سنة 1952، وأَمَّمَ قناة السويس في 1956، وأخرج البلاد العربية من حالة القُطرية الضيقة إلى حلم الوحدة العربية الكبرى، ثم تَرْجَمَ الحلم إلى حقيقة من خلال الوحدة مع سورية العربية الشقيقة.
تقوم الفكرة الأساسية لصناعة البطل السياسي، من خلال وسائل الإعلام، على "المسكوت عنه"، أي إغفال الأخطاء، والأغلاط، والهفوات، والارتكابات، والجرائم التي تصدر عن الشخصية المصنوعة، والتركيز على الإنجازات وتضخميها مهما تكن قليلة الأهمية. فالإعلام الناصري لم يكن يتحدث عن الفكرة الرهيبة التي قالها الشيخ خالد محمد خالد صراحةً لجمال عبد الناصر في قصره، أن ثورة يوليو 1952 خطوةً إلى الوراء فيما يتعلق بالديمقراطية في مصر.
ولا شك أن النسخ الأكثر سطوعاً، وبهاء، وشعبية، وفظاعةً من نسخ البطل السياسي الذي تُخرجه الأضواء الإعلامية هي صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي. فصدام لم يكن بطل العراق وحده، بل هو صدّام العرب، وصاحب "قادسية صدام"، وأم المعارك وقاهر الفرس. والكاميرات التلفزيونية العراقية لم تكن تعمل أي شيء خارج عن سياق رصد بطولات هذا العبقري الرهيب. أما الإعلام السوري فكان يُبدع، ويبتكرُ، ويتفننُ في إطلاق الصفات الحميدة على الجنرال حافظ الأسد، صاحب الانقلاب العسكري الذي عُرف باسم الحركة التصحيحية.. فهو الأب، القائد، الأمين، المناضل، المُلَهَم، بطل التشرينين، بطل الصمود والتصدّي، رمز الأمة العربية.. وزادت المغامرة البلاغية عند أحد أعضاء مجلس الشعب الحلبيين عن حد المرونة الطبيعي فتجرأ وأطلق عليه لقباً خطيراً هو: سيد الوطن.
وكان حافظ الأسد قد قضى، في مطلع الثمانينيات، على التيارات الإسلامية المعادية له قضاء مبرماً، فأعدم منهم من أعدم، وهَجَّرَ منهم مَن هَجَّرَ، وأودع الآخرين في سجن تدمر العسكري إلى آجال غير مسمّاة، ثم أتى بعلماء موالين له، وشرع يولم لهم في رمضان، وفي رأس السنة الهجرية، وتأتي الكاميرات لتصورهم وهم يقدّمون فروض الولاء والطاعة له، وتصوّره وهو يحنو عليهم، ويستمع إلى همومهم، ويحملهم توصياته وتوجيهاته إلى الرعية. وأما الجبهة الوطنية التقدمية التي تشكلت سنة 1972 لتكون ائتلافاً وطنياً تقدّمياً متنوعاً، فقد أصبحت، وبضمنها حزب البعث الحاكم، كياناً ملحقاً بالمنظومة الإعلامية الصاخبة، وأصبح الأخ صفوان قدسي، والرفيقة وصال فرحة بكداش، والأخ فايز اسماعيل، والأخ كريم الشيباني، وغيرهم، يتنافسون، ويتبارون في تدبيج المدائح الإنشائية البلاغية التي تشيد بعبقرية حافظ الأسد، وترتفع به عن طبائع البشر، وتقرّبه من مصاف الآلهة.
ومن حسن حظ الشعوب، طبعاً، أن هذه الصناعات لا تصمد في وجه الزمن.. بدليل أنها أخذت تتهاوى تباعاً.