صناعة الإرباك بالدين أيضاً
السلطة تقول، من وراء بابٍ موارب، لكل الناس: لدينا دين جاهز في "الصحّارة"، نقدّمه للإرباك والتخويف وتشتيت الخصوم عند اللزوم، دين من قلب الدين وأحيانا من جوهره، بعدما عجزت الهمم، ونقدّمه عند اللزوم أيضا وفي أوقات خاصة، هذا إن كانت هناك حروبٌ جاهزةٌ في معامل شيكولاته وألبان السلطة ولبانها.
السلطة تقول: لدينا فائض دين بكثرة من هامش الدين ومن جوهره ومن كل أثواب رجال الله الصالحين في الأزمنة كافة. ولدينا علماء في بحار الدين في حالة غوص دائم بحثا عن اللؤلؤ وريش نعام الكراسي لنا، وعن كل مريح وما لذ وما طاب، ولدينا خطاطيف في حناجر العلماء لصيد أسماك القرش ومسك الأفيال من الغابات والأحراش، ولدينا الأسلحة أيضا من حواشي الدين في كل المذاهب، ولدينا التروس أيضا.
دين ممكن له أن يكون هو الصواب والاعتدال، هذا لو سمعنا العالم وعرف نبل مقاصدنا. أما لو لم يسمعنا فسوف يأخذهم التجّار إلى المذابح، ونحن لا نذبح ولا نقتل أبدا، لأننا نحكم بالقضاء، والقضاء عادل ومن جوهر الدين، ولا نريد أن نربك أو نشتت أو نظلم أي أحد، وهذه طبيعتنا من قديم الزمان. اتركوا باعة الدين في تلك الأسواق التي كانت وتعالوا إلى علمائنا فقط، فديننا من أنقى نبع للفقه والحديث وعلوم الكلام، ونحن لا نشتّت أي أحد، ولا نستنزف الطاقات في الفقه أو السياسة، فنحن "كده"، وكونوا معنا وتعالوا ننقّي معا الشوائب، كي تعيش الأجيال القادمة في محبة وتناغم مع العالم الذي حولنا.
معنا علماء أفاضل نستمع لهم، فهم في بحار الدين قد سهروا، وها هو دكتور سعد الهلالي، أستاذ في مقارنة الأديان، قد غاص في ديننا الحنيف، أسوة برهبان الكنائس في زمن إقطاعيات أوروبا، وقد وجد عجبا يفوق سماحة الأمراء ولطفهم مع الزوجات، فقد أقرّ فضيلته أن المرأة المسلمة ليس من واجباتها رضاعة أطفالها، بل لها حقّ الأجر عن ذلك كاملاً، وأيضا خدمة الزوج في البيت ليست من واجباتها، فالمرأة للزوجية فقط، وليست للرضاعة أو الكنس أو الغسيل أو الذهاب إلى الطاحونة وكيلة القمح فوق رأسها، وليس أيضا من واجبها الخبيز، بل تكلّف أميرها بالإنفاقات كافة، أسوة بأديان الأمراء في كل مقاطعات أوروبا حتى تخوم مانهاتن ونيويورك، فنحن ليس أقل دينا منهم أو أصالة.
وإذا بي وقد تخيلت بالفعل أن سعد الدين الهلالي قد ألزم نفسه سلفا بكل تلك الشروط، وإلا لما نطق بها، لأنها ستضعه في خانة علماء السلاطين، فقد تصوّرت أن الله رزقه بتوأمين، وأصرّت زوجته وحماته أن يتصرّف في مرضعتين من المرج أو عزبة النخل، وتصرف الدكتور سعد على أمل أن تأخذ كل مرضعة مبلغ ألفي جنيه حدّا أدنى مع مصاريف المواصلات من المرج وعزبة النخل لمسكنه الذي لا أعرف مكانه، ثم عادت الزوجة وطلبت منه واحدة لغسل الملابس، وواحدة للمطبخ، وواحدة لتوصيل بقية الأولاد إلى أبواب المدرسة، لأنه من الفقراء ولا يتعامل مع الباصات غالية السعر. بالطبع، غضب الدكتور سعد من شرط التوصيل إلى المدرسة، وقال لحماته: "أوصلهم أنا بنفسي يا ستي"، واحتار دكتور سعد في أمر غسل الملابس والطبيخ، فجرّب الوجبات الجاهزة والمغسلة، فأخذت أغلب راتبه من الجامعة، إلا أن الله وقف بجانبه في الأسبوع نفسه، فبشّرته رئاسة الجمهورية تليفونيا، بأنه سوف يصير مستشارنا الثقافي في سفارتنا بنيويورك بالدولار، فاحتار في أمر التوأمين، لأن الشغالات في نيويورك غاليات جدا، وخصوصا مع التوأمين. هنا اطضجع دكتور سعد الهلالي، وحاول في المنسيّ من الفقه، فوجد شارحة منسيّةً تخدم البعثات، تقول ما معناه أنه يحقّ لسفراء الدولة، إلى الدول الأجنبية خصوصا، أن توفر الدولة الأم له مرضعة، إن كان المبعوث صاحب أطفال، علاوة على الغسّالة والطباخة. قدم دكتور سعد هذه الشارحة المنسيّة إلى قصر الرئاسة لتوفير النفقات، إلا أن دكتور سعد زاد الشارحة توضيحا بأن من الجائز شرعا أن تكون المرضعات والغسالات والطباخات من المواطنات للبلد الأم. حسبت الرئاسة تكلفة السفر والإقامة للمرضعتين والغسّالة والطباخة، طبقا لشغالات أوروبا وسكنهن المستقل أسوة بأمراء أوروبا، فوجدت التكلفة تفوق راتب سعد الهلالي نفسه عشرين مرة، فألغيت، على الفور، البعثة الدبلوماسية لسعد الهلالي، وأن يظل في عمله بالجامعة، ويعود إلى السكن في عزبة النخل فوراً، لأن هذا من الأبواب المنسية من الفقه، ستكلف البلد ربع الميزانية، ومرفق مع إلغاء البعثة، لفت نظر لسعد الهلالي، وخصم شهر من راتبه تضاف إلى ميزانية صندوق "تحيا مصر".