صديقي العزيز كدوش

04 مارس 2018
+ الخط -
التقيتُ، ذات يوم من عام 1994، في دار الينابيع بدمشق، سيدةً من محافظة السويداء اسمها أمية عبد الدين، عَرَّفَتْني على نفسها، وأهدت إلي مجموعتين قصصيتين كانت قد أصدرتهما، "لقاء الأحبة"، و"سوق الإثنين الأربعاء الخميس"، وقالت لي: أنت بالذات يهمني رأيك.
لم أفهم وقتها لماذا يهمها رأيي، أنا بالذات. ولكن، حينما عدتُ إلى إدلب وقرأتُ المجموعتين، وجدت أنهما من اللون الساخر، يعني أن هناك قرابة أدبية بيننا. وإذ تمعنتُ في قصص المجموعتين، خرجتُ بنتيجة مفادُها بأن أمية، وضمن حدود معرفتي واطلاعي، هي الأديبة السورية الساخرة الوحيدة.. ووقتها سألت نفسي: لماذا يوجد في بلادنا أدباء ساخرون رجال، وقلما نعثر على أديبة ساخرة؟
بعد زمن ليس بعيدا، نَشَرَتْ أمية عبد الدين في الملحق الثقافي في صحيفة الثورة قصة قصيرة عنوانها "النقد الأدبي.. ثلاث قتلات في اليوم" كانت، برأيي المتواضع، من أجمل ما قرأت ضمن هذا اللون من الأدب.
لم تكن محرّكات البحث الإلكترونية موجودة في تلك الحقبة، وقد رحلت الكاتبة أمية عن دنيانا، كما أخبرني صديق من أبناء السويداء، ولا يوجد لها أيُّ ذِكر على محرك (GOOGLE)، ومن الصعب علينا الآن الرجوع إلى أرشيف ملحق "الثورة" لنستعيد القصة. ولكن، مع ذلك، تحتفظ ذاكرتي بخطوطها الأساسية التي ترسخت في ذهني، لأنني، في تلك الأيام، حولتها إلى لوحة تلفزيونية.
ملخص القصة: شوهد الناقد الأدبي (س) راكضاً في إحدى حواري دمشق، ووجهه مُدَمَّى، فلما وصلَ إلى أحد الأبواب، شرع يخبطه بيديه ورجليه، وينادي على واحد من أبناء بلده بلقبه "كدوش" ويقول: افتح بسرعة كدوش. افتح كدوش لعنة الله عليك. فلما فتح الشاب مفتولُ العضلات، فايز، الملقب كدوش الباب، وشاهد صديقَه الناقد (س) على هذه الحالة التعيسة، استغرب وطلب منه أن يدخل، ويغسل وجهه، ويضمد جروحه، ولكن (س) رفض الدخول، وطلب من كدوش أن يذهب معه حالاً، للمؤازرة، ورد الصاع صاعين للشخص الذي ضربه.
نسمّي، نحن السوريين، الضرب الذي يتعرض له إنسان ما دون أن يميته "قَتْلة"، وما حصل أن فايز الملقب كدوش أصر على دخول (س) إلى البيت، ليفهم منه القصة، و(س) أبدى مقاومة كبيرة، فاضطر كدوش لأن يعمل له "قَتْلة"، ويرغمه إثرها على الدخول، وبذلك يكون صاحبنا قد تعرض لـ "قَتْلتين".
ساعد كدوش صديقه (س) على غسل وجهه، وتبديل قميصه الممزّق، وحضر له كأساً من عصير الليمون، وأجلسه وطلب منه سماع قصته كما حدثت، فقال (س) إنه حضر حفل توقيع كتاب للروائية المعروفة (ق)، وفي أثناء الحفل أبدى (س) رأيه بالرواية، فأبدت تلك الحيزبون شراسة كبيرة، وضربته ذلك الضرب المبرح.
سأله كدوش: وماذا قلت لها؟ قال (س) وهو يخرج من جيبه ورقة، ويقرأ منها: عرضتُ عليها رأيي إن التشكيلة السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي تتناولها الرواية زال شرطها ‏الموضوعي، ‏وغلفها الماضي بسرابه. وروايتك هذه، كرواياتك السابقة تمثل غموض الزمن، وحلكةَ دهرٍ يكابد القهرَ الواعي، موغلاً في أزمنة متداخلةٍ مترفةٍ بالألم والهموم المتمادية في برهة سرورٍ يكرس الاغتصابَ والأمنياتِ الدفينة في ‏صخبِ الشوارع الصماء المقيتة. ‏إنها الذاتُ الروائيةُ الشوهاءُ التي تسكن الأديبَ المفككَ المحاصرَ ضمن بناءٍ تراكميٍّ هابط، متنامٍ وسط طقوسٍ وثنائياتٍ لا متناهية، مفعمةٍ بدفق الاغتباط والعزلة المتبلدة بمدى قاحلٍ مرير، مُعَانِقَةً الذاتَ بصدق رهيف، ومخاتلةٍ بهيميةٍ كاذبة، محصنة بالحزن وإسقاطاتٍ ناجزة، تفصح عن نفسها بمثابتها بكماءَ لا تفرق بين الخل والخردل...
انفلت كدوش فجأة بالضحك، وقال لـ (س):
اسمع صديقي، أنا لست أديباً ولا ناقداً، ولكنني متأكد من أنك تستحق عليه "قتلة" من تلك السيدة. ووالله لولا إشفاقي عليك الآن، لعملتُ لك "قتلة" ثالثة.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...