صحافة الاستقصاء .. نوبل بعد باندورا
أول القول في الشأن المعنية به السطورُ التالية إن صحافة الاستقصاء، بالمهنيّة المفترضة فيها، شحيحةٌ جدا في الصحافات العربية، لألف سببٍ وسبب، من قبيل أنها تتطلّب مجهودا كبيرا ونفَسا طويلا ومثابرةً ومتابعةً دؤوبتين، وقد تحتاج كلفة عالية أيضا. والطاغي الماثل في هذه الصحافات الميلُ إلى نقل المنقولات وطبخ المطبوخ وتدوير الموجود والميسور، وإلى الشغل المكتبي الذي يغطّي بلادتَه ورتابتَه بتقديم أولوية الرأي والتعليق (مع الحشو والاسترسال والثرثرة و..) على الكشف وتنمية حسّ البحث عن الجديد والخافي. ولكن هذه المثالب الطافية لا تلغي أبدا أن ثمّة تميزا باهرا، يحدُث أن تصادفه، في غير منبر إعلامي عربي، يعتني بالتحقيقات الاستقصائية، ويضيف فيها جديدا مهما وكاشفا. ليس الحال على هذا النحو في بيئات الصحافات الغربية، المستقلّة، وقوية القدرات والإمكانات والكفاءات، المهجوسة أساسا بإزالة الأستار عن الأسرار والمعتَّم عليه والمُراد إخفاؤه، وإنْ لا تعني هذه الكلمات ثناءً مجّانيا بالمطلق، فيحدُث أن تُصادف في منابر كبرى في الولايات المتحدة وأوروبا ما يضحّي بالحقائق لأغراضٍ ظاهرةٍ أو مستترة، وما يتواطأ على الأصول المهنيّة والحرفية العالية لحساباتٍ ورهاناتٍ سياسية.
ما يأتي هنا بموضوعة صحافة الاستقصاء، وهي أعلى أجناس الصحافة منزلةً (بحسب الكاتب)، أن واقعتين تتابعتا الأسبوع الماضي تخصّانها. الثانية أن لجنة نوبل النرويجية منحت جائزة نوبل للسلام لصحافيين يشتغلان في الصحافة الاستقصائية تعيينا: الفلبينية ماريا ريسا، التي كانت قد شاركت في تأسيس شركة وسائط رقمية للصحافة الاستقصائية في بلدها، واحتُجزت غير مرّة، وتلاحقها دعاوى قضائية، والروسي دميتري موراتوف الذي يترأس تحرير صحيفةٍ يوميةٍ تحرز تقديرا عاليا بالنظر إلى استقلاليتها، وقد قضى ستةٌ من صحافييها في الأعوام الماضية، منهم الصحافية الاستقصائية التي تألقت في أدائها، آنا بوليتكوفسكايا. وجاء لافتا في بيان اللجنة إتيانُه ليس فقط على كفاح الفائزيْن "الشجاع من أجل حرية التعبير"، وإنما أيضا قوله إن "الصحافة المستقلّة القائمة على الحقائق تسمح بمحاسبة صانعي القرار، وتساعد على الحماية من استخدام السلطة الأكاذيب والأخبار المضلّلة"، ما يؤشّر إلى ما يمثله التزييف في الأخبار والصور، بغرض تضليل الرأي العام، وهي الظاهرة التي صارت أشبه بجائحةٍ ذات تأثيراتٍ غير هيّنة السوء. وبعد أن نبّه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى خطورتها، هذه لجنة نوبل للسلام تفعل الأمر نفسَه، وتكافئ صحافييْن باسليْن في مواجهتها، وفي مناهضة سلطات الفساد والاستبداد. وليْسا، ريسا وموراتوف، أول الصحافيين الذين يحرزون جائزة نوبل للسلام، فقد أُعطيها آخرون غيرُهما، لكنهما، والألماني كارل فون أوسيتزكي، الذي كوفئ بها في عام 1935، استحقّوها عن جهودهم الصحافية المحضة، وليس لنشاطٍ سلميٍّ مدنيٍّ بادروا إليه كما آخرين من زملاء المهنة (خمسة ربما) أعطوا الجائزة العتيدة.
الواقعة الأولى التي سبقت الفوز بجائزة نوبل فوز 660 صحافياً من عدة مؤسّسات صحافية في العالم (بينها عربية قليلة) بإعجابٍ عريضٍ في العالم لإنجازهم كشوفات "أوراق باندورا"، والتي أشهَرت أسماء 35 رئيس دولة حالي وسابق و330 سياسيا من مائة دولة وشخصيات عديدة في ميادين الأعمال والاستثمار ونجوم في غير شأن (كلوديا شيفر وشاكيرا مثلا)، أجروا تعاملاتٍ ماليةً في الخفاء، من أجل تهرّب ضريبي، أو تجنّب ضريبي في حالات معينة (ليس كل من زاولوا هذا بالضرورة متّهمين بمخالفاتٍ قانونية)، وذلك باللجوء إلى "ملاذاتٍ ضريبية" بمسميّات شركاتٍ وهمية. وقد أجرى هؤلاء الصحافيون، تحت مظلّة "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين" التدقيق في أكثر من 11 مليون وثيقةٍ في هذا الخصوص. ...
هذا جهدٌ كبيرٌ عن حق، يُحسَب الأول من نوعه بالاتّساع البادي فيه، وبالقيمة البالغة للكشوفات فيه، ذات الحساسية الخاصّة في كثيرٍ منها، يمكن الزعم إنه تمثيلٌ مهمٌّ لما في وسعها أن تؤدّيه الصحافة الاستقصائية الدؤوبة، المثابرة، طويلة الأنفاس، في غير ميدانٍ ومسألة. وفي عموم الظن الحسن أن بعضا من التكريم الذي خصّته جائزة نوبل للسلام للصحافة الاستقصائية (المستقلّة الحرّة) استحقّه كل من شاركوا في مجهود "أوراق باندورا".