شفيق الغبرا .. البحث عن حياة أكثر أمناً

02 أكتوبر 2021
+ الخط -

في مقدمة كتابه "حياة غير آمنة .. جيل الأحلام والإخفاقات"، يقول الراحل شفيق الغبرا إنه يكتب هذه السيرة الذاتية للشبان والشابات العرب، لعلهم يجدون في تجربة جيله وأخطائه ما يغني رؤاهم، "وإن لم يجدوا فيها شيئاً فأنا أكتبها لذكرى أصدقائي".

هذا التواضع الجمّ المبهر كان أكثر ما يلفتني في المرّات التي التقيته بها، وهو الرئيس المؤسس للجامعة الأميركية في الكويت، الأكاديمي ذائع الصيت، لا يتكبّر عن السفر إلى دولة أخرى استجابة لدعوة مبادرة شبابية تقودها فتاة غير معروفة. يستمع مطوّلا لي ولشباب آخرين، ويتقبل ما يخالفه من آراء.

لم يدُر ببالي أبدا أن شفيق يخفي داخله سيرة أخرى للمقاتل "جهاد" إبّان الحرب الأهلية اللبنانية. ترك حياة رغيدة في الكويت التي يحمل جنسيتها، وتحظى أسرته بعلاقة مميزة مع الأسرة الحاكمة فيها، وكذلك ترك مستقبله الواعد بعد إتمامه الدراسة في جامعة جورج تاون الأميركية، لينضم إلى أشد الكتائب تقشّفا على أفقر الجبهات، حيث تصاحبه عقارب الجبال وأفاعيها.

تحوّلت تلك الأفاعي إلى آخر همومه، في مقابل أفاعٍ بشرية عديدة. في كتابه، يفخر بأمجاد رفاقه في "الكتيبة الطلابية" أو "كتيبة الجرمق"، وهي أمجادٌ أشد ما يميزها طبيعتها السياسية قبل العسكرية، فالكتيبة المكوّنة في مجملها من طلاب متعلمين ذوي توجهاتٍ يسارية، تناضل لحماية ممتلكات الناس من السرقة، وتحمي كنيسا فيه حاخام يهودي لبناني من بطش "رفاق" آخرين. يناضل "جهاد" ورفاقه ضد الطائفية، وضد قتل المدنيين والأسرى من أي طرف. وذلك كله في إطار من التجرّد التام، حتى أنه يواجه تساؤل زوجته بشأن مستقبل مسار أسرتيهما عام 1979، بعقد اتفاق معها إنه سيواصل القتال عشر سنوات، حتى عام 1990، ثم يغادران إلى حياة مستقرّة، بينما كان يكتم في نفسه شعوره أنه سيموت قبل ذلك.

لحسن الحظر، جرت تصاريف القدر أن ينجو من الموت مرارا، وأن يقرّر مغادرة لبنان عام 1981، بعدما بدأ عالمه يتداعى. انغمس الفلسطينيون في الحرب الأهلية طوعا أو كرها، وغزت الانقسامات الإسلامية العلمانية كتيبته بفعل تأثير الثورة الإيرانية.

يصف الغبرا رحلته: "قد تكون تجربتي الذاتية قصة تحوّل من البراءة إلى الراديكالية، ومن الراديكالية إلى التساؤل". لا تنقصه الشجاعة في طرح كل الأسئلة. بدأ بحلم أن يحرّر عسكريا حيفا، مدينة أسرة والده المرموقة التي فقدت مكانتها وأملاكها بعدما تعرّضت للتهجير في 1948، لكن مع احتكاكه بويلات الحرب، ومع تحوّل موقف الحاضنة الشعبية اللبنانية إلى العداء، وجد موقفه يتغيّر إلى الدولة الديمقراطية متعدّدة القوميات، أو القبول بحل الدولتين، حتى أنه لم يتخذ موقفا قطعيا لحظة زيارة أنور السادات القدس المحتلة، آملاً في أن تؤدي إلى اتفاق سلام عادل فلسطيني - إسرائيلي، لكن ما حدث كان تفرّغ إسرائيل لسحق الفلسطينيين، بعدما تم رفع الدعم العربي.

بعد ست سنوات من القتال، عاد شفيق رأساً إلى الولايات المتحدة، ليدرس الدكتوراه في جامعة تكساس. ومن هناك بدأ "حياة جديدة وحوارا مع الآخر" كما يصفها في كتابه. .. حوارات مع الأميركيين ومع إسرائيليين يدرسون معه. يقول إنه وجيله اكتشفوا بالتجربة إنهم لا يستطيعون محو التاريخ الذي وقع مع قيام دولة إسرائيل. "لا يمكننا تجاهل هذا الواقع وكأنه لا يوجد شعبٌ إسرائيلي على الجانب الآخر".

يتساءل: "هل نحن صورة مختلفة للآخر؟ هم المضطهدون عبر التاريخ كله، ونحن المضطهدون في التاريخ الجديد". يقارن بين موقع المحرقة النازية في الضمير العالمي وبدء تحول القضية الفلسطينية أيضا إلى حالةٍ شبيهة، مشيرا إلى أهمية المقاومة المدنية غير المسلحة، والتي تعرّضت لتهميشٍ في أغلب محطّات المسار الفلسطيني، باستثناء الانتفاضة الأولى، داعيا إلى التعلم من تجارب الهند وجنوب أفريقيا.

يؤكد شفيق، من ناحية أخرى، أولوية وضع القضية الفلسطينية في جوهر نضال عربي داخلي لتحقيق الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية الفردية. لا عجب إن كان من أعلى الأصوات في دعم الربيع العربي، والتزم ذلك حتى وفاته، بعد نضال أخير ضد مرض السرطان.

يقول، في ختام كتابه، "إن قيمة الأرض من قيمة الإنسان، وقيمة تحرير الأرض متداخلة مع تحرير الإنسان وفكّ قيوده. الإنسان هو الجوهر".