شعراء الزلازل
من أين يأتي الشعراء بالجُمَل الشعرية اللازمة للتعبير عن كارثة الزلزال؟ هذا ما كتبته الشاعرة رشا عمران على صفحتها، وعبّرت عن استغرابها الشديد منهم، وأكّدت أنها لا تقدر على كتابة مقالة عادية عن الزلزال، فما بالك بإبداع قصيدة شعر! يتبادر إلى الذهن، الآن، سؤالان مهمان: هل كلُّ مَن كتب كلاماً موزوناً ومقفّى، يتضمّن حكماً وأمثالاً ومواعظَ، شاعر؟ هل هذا الكلام الذي (يقترفه) أولئك الأشخاص، وينشرونه على صفحات التواصل الاجتماعي، شعر؟ الجواب، ببساطة، لا. وهذا يعود، بزعمي، إلى أننا، في "بلاد العُرب أوطاني"، لا نسمّي الأشياء بمسمّياتها، ونخلط بين الشاعر والنَظَّام، ونمنح النَظَّام فرصَ بضعة شعراء من الشهرة، والنشر، والجوائز.
منذ مطالع العصر الحديث، أو لنقل من خمسينيات القرن الفائت، بدأ تياران سياسيان كبيران يتنافسان للسيطرة على شعوبنا الغلبانة: القوميون، وجماعات الإسلام السياسي... وعلى الرغم من أن الحرب بين التيارين كانت (على القتل)، إلا أنهما اتفقا، مصادفة، على أنْ يدعم كلٌّ منهما موقفه السياسي بالشعر، ومن بعدهم لجأ الشيوعيون إلى اعتماد "شاعر الحزب". ومعلوم أن رئيس الحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، كان يتدخل، شخصياً، لتسمية شاعر الحزب. وللإنصاف أقول إن شاعر الشيوعيين أكثر حداثة وشاعرية من شعراء "البعث" والناصريين والإسلاميين .. وكانت فكرة خلط الشعر بالسياسة سهلة التنفيذ، لأن العرب أحبّوا الشعر منذ أقدم الأزمان، واعتبروه ديوانهم، على الرغم من أنه نشاط تعبيري شفاهي، صحراوي، يُحفظ ويجري تداوله من دون أن يدوّن على الورق. ونظروا إلى النثر العظيم الذي أبدعه الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعرّي، باستخفاف، معتبرينه إبداعاً ثانوياً، أو "سيكوند هاند". وللعلم، يا سيّدتي، أن قسماً كبيراً من الشعر العربي لا يعدو كونَه صياغات فنية ماهرة للحكم والأمثال، أو للأفكار الذهنية، بما في ذلك معلقة زهير بن أبي سلمى، وقسم كبير من شعر المتنبي الذي أنصفه سعيد عقل، حينما سئل عنه، فأجاب: له أبياتْ!
أنت لن تجدي شعراً في قول كعب بن زهير: "كل ابن أنثى وإن طالت سلامته/ يوماً على آلة حدباء محمولُ". والأفضل منه تشبيه طرفة بن العبد الموتَ برجل يَمسك رسناً (الطِوَل المُرْخى)، يربط به الفتى، ومهما ابتعد يستطيع أن يجذبه، ويأتي به صاغراً.. أما الشعر العامر بالصور المبتكرة، والأحاسيس العميقة، فتجدينه عند ابن الرومي، وأبي نواس، ومجنون ليلى، وبعض شعراء الأندلس، ولو أتيتِ إلى العصر الحديث، لوجدت في شعر المناسبات العجب العجاب .. ومع أن صديقنا الراحل ممدوح عدوان كان شاعراً حداثياً جيداً، إلا أنه كان يحبّ المشاكسة، فحينما وصف أحدُهم شعر الانتفاضة الفلسطينية، أواخر الثمانينيات، بأنه رديء، كتب مقالة عنوانها "أيها الشعراء اكتبوا شعراً رديئاً"..
شعر المناسبات، حقيقةً، رديء، مثل شعر المديح، والفخر، والرثاء، وهذا يعود إلى ما اصطُلح على تسميته "المسكوت عنه"، الذي يؤدّي إلى "وحدة الأثر"، بمعنى أنكِ؛ وأنت تمتدحين الأطفال الذين كانوا يرشقون جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة، لا يحقّ لك أن تمرّري عبارة تعتبرين فيها هذا العمل ضارّاً بالقضية، ثم، وأنت تُصغين إلى محمد مهدي الجواهري وهو يلقي مئة وعشرة أبيات في مديح حافظ الأسد، يستحيل أن يخطر في بالك أنه سوف يُلمح، في أحد الأبيات، إلى أن حافظ كان يجرم بحق المعتقلين السياسيين، وأن عائلته تسرق ثروات البلاد، أو أن تجدي في هجاء المتنبي كافور، واحتقاره ذوي البشرة السمراء، بيتاً يقارب في معناه قول سعيد عقل في قصيدة مكة: وأعِزَّ، رَبِّ، الناسَ كُلَّهُمُ/ بيضاً، فلا فَرَّقْتَ، أو سودا
والآن، وعلى الرغم من كل السنين التي مضت على شعر الانتفاضة، وقصائد رثاء الطفل محمد الدرّة، وغيرهما من المناسبات، أظن أن شعر الزلازل سيحتل المكانة الأكثر رداءة.